بقلم/حسن محمود الشريف
يستقبل المسلمون في هذهِ الأيامِ وافداً حبيباً ، طالما انتظرته القلوبُ المؤمنةُ ، و تشوقت لبلوغه النفوسُ الزاكيةُ ، و تأهبت له الهممِ العاليةِ ، وافدٌ قد رفع اللهُ شأنَه ، و أعلى مكانَه ، و خصه بمزيدٍ من الفضلِ و الكرامةِ ، و جعله مُوسِمًا عظيمًا لفعل الخيراتِ ، و المسابقة بين المؤمنين في مجالِ الباقياتِ الصالحاتِ ،
إنَّ اللهَ قد امتنَّ على عبادهِ بمُواسمِ الخيراتِ ، فيها تُضاعف الحسناتُ ،و تُمحَى السيئاتُ ، و تُرفَع الدرجاتُ ، و تتوجه فيها نفوسُ المؤمنين إلى مولاها ، فقد أفلح من زكاها ، و قد خاب من دسَّاها ، و إنما خلق اللهُ الخلقُ لعبادتهِ فقال عزّ من قائل : ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾
و من فضلِ الله تعالى على عباده أن جعل لهم مواسِمَ للطاعاتِ ، يستكثرون فيها من العملِ الصالحِ ، و يتنافسون فيها بما يقربهم إلى ربهم ، و السعيد من اغتنم تلك المواسِمِ ، لأنها تمر عليه مروراً عابراً .
و من هذه المُواسِمِ الفاضلةِ عشر ذي الحجة ، و هي أيام عشر مباركة شهد لها الرسولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ و سَلَّمَ بأنها أفضل أيام الدنيا ، و حثَّ على العملِ الصالحِ فيها ؛ بل إنَّ الله تعالى أقسم بها ، وهذا وحده يكفيها شرفاً و فضلاً ، إذ العظيم لا يقسم إلا بعظيم .
ومن عظم شأن عشر ذى الحجة أنَّ الله أقسم بها والله سبحانه لا يقسم إلا بعظيم
قال الله تعالى في سورة الفجر (وَالفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْر)..
و أخبر النبي – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ و سَلَّمَ – أنَّ العملَ الصالحَ فيها أحبُ إلى الله – عَزَّ و جَلَّ – من العملِ الصالحِ في غيرها .
و من فضائلِ أيامِ العشرِ : أنَّ فيها يومَ عرفةِ الَّذِي هو أفضل أيام الله بعد يوم النحر ؛ كما أنه عيد من أعياد الإسلام، قال – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ و سَلَّمَ – ” يوم عرفة و يوم النحر و أيام منى عيدنا أهل الإسلام (أخرجه الإمام أحمد و أبو داود ، والترمذي ، والنسائي).
و تفضيل يوم عرفة لأنَّ فيه يقف الناس بعرفة للقيام بركن الحجِ الأعظم ؛ كما أنَّ لصيامه و الذكر و الدعاء فيه فضلًا عظيمًا و خيرًا عميمًا لغير الحجيج؛ فعن أبي قتادة -رضي الله عنه- قال: “سُئل رسولُ اللهِ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ و سَلَّمَ – عن صيامِ يوم عرفة ؛ فقال: ” أحتسب على الله أن يكفر السنة الماضية و الآتية”(رواه مسلم) ؛ كما أنَّ الله يعتق في هذا اليوم من رقابِ عباده ما لا يعتق في غيره من الأيامِ ؛ كما روت السيدة عَائِشَة -رضي اللهُ عنها-: أنَّ رَسُولَ اللهِ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ – قَالَ : ” مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللَّهُ فِيهِ عَبْدًا مِنْ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ وَإِنَّهُ لَيَدْنُو ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمْ الْمَلَائِكَةَ فَيَقُولُ مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ ؟ اشهِدوا ملائكتي أني قد غفرتُ لهم “(رواه مسلم)، يقول النووي -رحمه الله-: ” فهذا الحديث ظاهر الدلالة في فضلِ يومِ عرفة “.
و مما يؤكد على فضلِ هذه العشر : أنَّ فيها يومَ النحر ، و هو العيد الأكبر و أفضل أيام السنةِ ؛ لاختصاصه بكثير من الشعائرِ و الطاعاتِ ؛ ففيه تُراق الدماء تعظيمًا لرب الأرضِ و السماءِ ، و لا تُذبَح الضحايا و الهدايا قبله ، قال -سبحانه و تعالى -: (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَ انْحَرْ)[الكوثر:2].
و من فضائلِ أيامِ عشر ذي الحجة -أيُّها الأحبة- اجتماع أمهات العبادات فيها ؛ و لا ريب أن هذه المزيّة لم يشاركها فيها غيرها من أيامِ العامِ ؛ كما رجح ذلك الحافظ ابن حجر -رحمه اللهُ – بقوله : ” و الَّذِي يظهر أنَّ السببَ في امتيازِ عشر ذي الحجة لمكان اجتماع أمهات العبادة فيه ، و هي الصلاة و الصيام و الصدقة و الحج، و لا يتأتى ذلك في غيره “.
و هذا يستدعي من العبدِ أن يجتهد فيها ، و يكثر من الأعمالِ الصالحةِ ، و أن يحسن استقبالها و اغتنامها.
و أن يحرص حرصاً شديداً على عمارةِ هذه الأيام بالأعمالِ و الأقوالِ الصالحةِ ، و من عزم على شيء أعانه الله و هيأ له الأسباب الَّتِي تعينه على إكمالِ العمل ، و من صدق الله صدقه الله ، قال تعالى : و الذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا ) العنكبوت.
و أن يستقبل مُواسِم الطاعاتِ عامة بالتوبةِ الصادقةِ و العزمِ الأكيدِ على الرجوعِ إلى الله ، ففي التوبةِ فلاحٌ للعبد في الدنيا و الآخرة ، يقول تعالى : ( و توبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون ) [النور:31].
و كما أنَّ الطاعاتِ أسباب للقرب من الله تعالى ، فالمعاصي أسباب للبعد عن الله و الطرد من رحمته ، و قد يُحرَم الإنسانُ رحمة الله بسبب ذنب يرتكبه فإن كنت تطمع في مغفرةِ الذنوب و العتقِ من النار فأحذر الوقوع في المعاصي في هذه الأيامِ و في غيرها ؟ و من عرف ما يطلب هان عليه كل ما يبذل .
فاحرص أخي المسلم على اغتنام هذه الأيام ، و أحسن استقبالها قبل أن تفوتك فتندم ، و لات ساعة مندم .
و آخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.