ذاكرة التبغ 

بقلم _ منال رضوان

 

(طوبى لهم أولئك الذين يعبرون فوق الخذلان بأصابع شمعية…..) 

هكذا كنت أخبرها كلما بدت حزينة بوصفي طبيبتها، كثيرًا ما تغاضت عن جميع النصائح التي ترفض بأن تحمل رفيقة العمر هوية الطبيب المعالج، وربما تغاضيت عن ذلك أيضًا؛ لشعوري أن منمنات هذه الذكريات كانت لنا معًا طوال حياتنا، فلا يجب بحال أن نتقاسمها مع الغرباء.

تصارحني – في قلق- أن جميعهم يعلمون، وكعادتها تقابل نظراتهم بشيء من ريبة، كما أن رسائل التودد المقيت التي يلقيها المتدرب الجديد على مسامعها تؤرقها إلى حد جعلها تعاود زيارة مركز التجميل مرة أخرى للتأكد من سلامة عمليات الحَقْن التجميلي لوجهها والذي كنت أراه جميلًا على خلاف ما تظن، إطراء أحد المدعوين على رادئها كان كفيلًا بانتزاع لونها المفضل من خزانتها والاستغناء عنه إلى الأبد،  

هي تعلم أنهم ينعتونها بغريبة الأطوار، يسخرون من إصرارها على غلق مقابض الغاز والمياه قبل مغادرتها العمل، تطمئن حين يجلس الجميع إلى مكاتبهم قبل ذهابها إلى دورة المياة.. في كل ذلك كنت معها لا أغادرها، بل أحرص على أن تحتفظ بهدوئها أمامهم أكثر.

 نعم هم يتهامسون علينا منذ أعوام كثيرة، ولكنها الآن لم تعد تلتفت إليهم.. هكذا تطبق النصيحة الطبية التي منحتها إياها في جلستها الأخيرة، 

في طريقها إلى موعدنا ستمضي الوقت في محاولة الإجابة على الأسئلة المحتملة، ستحاول تنميق إجابتها بقدر يكفل لها إخفاء الحقائق عني، ههه

 أعلم مراوغتها العنيدة وبأنها لن تخبرني عن فقدانها الثقة في جميع الأشخاص، أشعر أنني على وشك الانضمام إلى قائمة لا حصر لها من أولئك المغضوب عليهم، وبأنها فقدت ثقتها في قدرتي على علاجها ساعة أن أخبرتها بعدم استشعاري رداءة الحال التي آلت إليها سجائر “روثمان” وبأنني مازلت أدخنها! أغضبها تعليقي العابر ونعتت ذائقتي بالمعتلة!

 هل فقدتُ ثقتها باسم سيجارة.. ربما، لكن وسط دوامات من تبغ محترق كانت صورتها تتضح أمامي شيئًا فشيئًا … 

نعم، كانت رفيقتي ولم نفترق أبدًا، كنت لها بمثابة العقل الآمر والذي حثها على الالتحاق بكلية الطب كي لا نفترق، تماثلني بل يجب عليها أن تماثلني، أنا التي أخبرتها في حدة أن هوايتها الساذجة لن تصل بها إلى شيء.

 كنت شديدة اللوم والتوبيخ، أتذكر يوم أن رأيتها تخبىء مجموعة من الألوان الشمعية بأحد أدراج مكتبها، غافلتها وألقيت بالألوان عبر النافذة، كنت وحدي من أملك حق إرغامها على استذكار دروسها، ألاطفها بين حين وآخر أو أستحثها باللين تارة وبالعنف تارة أخرى، لكنني كنت وحدي من أملك حق صياغتها، بفضلي أنا أمست من أشهر أطباء جيلها، ورغم ما تعانيه من اضطرابات الذائقة والوساوس وتلك الهلاوس البصرية والسمعية؛ غير أنني تمكنت من علاجها وخبأت نقائصها عن أعين الرقباء، لقد نجحنا في ذلك إلى حد بعيد.

 لم أشأ أن أذكر ذلك كله، غير أنها دأبت على تعييري بذاكرة ذائقتي وفي تهكم بغيض أخبرتني باضطرابها الذي تعانيه وكيف أنني لم ألحظه، كما أنها سخرت من لفائف تبغي الذي كانت تنفثه في خوف عند رحيل أمي، أيضًا الذي كانت تأبى تغييره في أوقات مرحنا الصيفي على شواطىء الإسكندرية، بل هو ذاته ذلك التبغ الذي انتزعت واحدة منه وهي تودع وليدها إلى قبره، لمَ عليها الآن تعييري ؟

هل أخطأت حين منحتها ذلك القدر من الحرية، حتى أنها عاودت اللهو بالألوان أمامي في تحدٍ ساخر، 

 ربما منحتها الكثير من ثقة قبل التعافي، لكن على أي حال ستصل إلى هنا في غضون دقائق، وسيكون لزامًا علي ألا أدعها تواجه الجميع وهي على حالتها تلك.

لم أسمع طرقات الباب منذ ساعات، كما أن المرآة الكبيرة بمدخل عيادتي باتت تروقني، هي أيضًا تحب التطلع إليها كل مساء.

أشعلت لفافة من تبغي المفضل وجدته لا يحمل شيئًا مميزًا كما أنه لم يكن رديئًا، الآن علي مواجهتها لأعلم من منا ستنتصر لذائقة بقائها، فتحيا للمرة الأولى دون رفيقتها.

رئيس مجلس إدارة جريدة القاهرية

ذاكرة التبغ
Comments (0)
Add Comment