بقلم _ناجح أحمد
سلسلة قصار القصص
شاهد ديانا (1)
كانت ديانا فتاة في مقتبل العمر تعمل حقوقية ، عاشت موكب الأمل بكل عنفوان الشباب المقبل على الحياة ، وعندما ذهبت تطوعا لتصنع معروفا كي تنقذ طفل الجيران ، وتمنع حجزه في غياهب النسيان ، وقد خيم الرعب والخوف ينهر الجميع ، دخلت شاهدة عنوانها: “متطوعة” ، ومعها دفترها تدافع عن الصبي المظلوم ؛ لتخرجه من السجن الافتراضي ، وبدلا من إحقاق الحق دارت الدائرة عليها ؛ لتصبح متهمة تحجز في غرفة نوم مشرد ، ولم تخرج إلا بعد فوات أسبوعين محمولة على كتفي أمها الباكية ، بحسرتها المخفية تحت جفنيها ، دامعة العين ينتابها كتمان على وجهها المظلم ، وديانا محمولة لا تنطق بكلمة ، فلا تبدي إلا إيماءات تفهمها أمها بتصريح واحد : بسرعة ، أعيديني للبيت.
استفاقة ديانا (2)
ليس فضولي بل قلقي المتجدد أسال نفسي كل يوم عنها أرسلت رسالتي : كيف حالك ، أين أنت؟ ، وبعد فترة كتبت كلمات بحروف أعجمية ما أنزل الله بها من سلطان ؛ لم أفهمها ؛ كأنها شفرات ورموز مبهمة بالنسبة لي ، أرشدتني فطنتي ؛ فقلبت الحروف ، وقرأتها بأصوات لغتي ؛ ففهمت من فحواها أنها فاقت من غيبوبة هيستيرية بسبب فاجعة شابت لها الولدان ، وترجوني الكتابة بلغة غير مفهومة ، تقول : “مراقبة” ؛ فأدركت علي الفور ، وبدأت أكتب أصواتا بحروف غير مألوفة لدي ؛ خوفا مني عليها من الوقوع بمصيدة التآمر ، ثم كتبت : “سأهرب” ، ثم أغلقت.
هروب ديانا (3)
حانت لحظة الانتهاء من مكان الإقامة ، وتبدلت العزيمة المصحوبة بالخوف الشديد ، وعزمت الهرب من قطاع الطرق ، وتحزمت بوشاح الترقب كي لا ينتشر الخبر الذي لا يعرف كنهه إلا أقرب المقربين ، ويكشف المستتر لكنها هربت مسرعة في قطار الخذلان الذي وسمها بالخزي وصفعها الحانق صفعة لن تنسى حتى لو ذهبت إلى آخر الكون ، كانت خطواتها متعسرة كعجوز وهي في الخامسة والعشرين ، وأمها طافت حولها ترتجف وغيوم الأرض ملأتهما ، تنتفض وترتعش ، أسرعت تجري خوفا فكأنها تهرب من ضرغام شرس، وصلت بعد عناء ، وأمها المحزونة تهديء من روعها ، وأخذت ابنتها الوحيدة البكر إلى أن وصلا إلى نهاية الطريق ، ففوجئتا بحدود وأسلاك شائكة تحول بينهما إما قفزة هلاكهما أو إنقاذ حياتهما للأبد ، خلت ديانا بنفسها لحظة تهمهم بكلمات وتردد تراتيلا وأدعية ؛ لحظتها شاهدت شعاع شهاب ساقط من السماء المظلمة كشف بالقريب عن فتحة للهروب ، أوعزت للأم بأن هناك مخرجا ، وبعد عناء تخطياه ، وسارا بعيدا في عمق بلاد الجوار ، فالتقتتا الأنفاس الهاربة التي تقطعت داخلهما مع أصوات خفقان قلبيهما من جراء الجريان وسط دائرة الرعب والهلع للهروب من مجهول إلى مجهول ؛ حيث دار خالتها هناك.
لجوء ديانا (4)
مرت على ديانا – حيث تقيم- عدة أعوام فتبدلت أسماء ، وتغيرت أحوال ، والعيش أصبح أصعب مما كان ؛ حين ضاقت ذرعا من مطاردات أياد أشباح تعبث من نفس المكان القديم كالكابوس ليس في نومها فقط بل حتى في عملها ، وفي فضاء تنفيسها الوحيد تتوالى تهديدات ، و وعيد بالقطع والتهكير ، لا تحكي مع أحد ، والمؤلم أكثر أنها تمر بضائقة مالية ، وضيق الحال لأسعار تفاقمت في الطعام تزداد كل يوم ولا تكفيها أموال مهما طالت أو كدت ، فسهرت وشاقها الشغل وجهد الأعمال فقررت الانتقال إلى بلاد الغير ؛ فباعت كل شئ ، حتى أمها لم تستطع إعالتها أو أخذها معها ؛ فتركتها عند خالتها ، بعدما دفعت كل ما لديها إلا اليسير من النقود ، كانت لإيجارات ، وعلاج لها ولأمها الطريدتين ؛ فوضعت بعد عناء نصب أعينها ، وملء حياتها دموع في تفكير ، هدفها في حلها الأخير للعيش كغيرها ، وصرخت أخيرا : “من يحمني يرد لي جميلا ، من يعيديني إلى طفولتي التي ضاعت وتاهت بترا ؛ فلن أقبل وإن مت ؛ لا يهم ، وإن ماتت أحلامي بحقي في هذا الكون ، ولأسهر لآخر العمر لن أخضع لن أستسلم لأطماع القهر” ، ثم ما لبثت أن سكتت برهة ، واختفت وكأنها راحت في قاع من غياهب الصمت.