كرت مُعايدة ووردة

بقلم_ حسن محمد

 

لستُ صغيرا لأطلب من أبي جنيها ابتاع بنصفه كرت معايدة من عم عبدو الخردواتي والنصف الآخر كاف لشراء وردة بلاستيكية لا رائحة لها ولا لون. أكتب داخل الكارت «بحبك يا أمي». العودة إلى البيت وأنا على يدي وردة تشرأب منها ورقة: مشهد رومانسي يخطف قلوب الأمهات والسيدات الاتي أنعم الله عليهن بالخلفة ولم ينعم. مشهد أحق بأن يحزن طفلا فقد أمه، أو يصيب أخرى بالخيبة من ابنها «اللي ما طمرش فيه» حمله في بطنها تسعة أشهر…

 

اليوم عيد الأم: الأطفال، البالغون والكبار يملؤون الشوارع. أراني متحمسا كأني لهفة -تمشي على الأرض لا تستطيع الانتظار- جعلتْ الطريق طويلا لذلك رحت اختصره عبر الحواري والأزقة. في اللحظة الراهنة عقلي مشغول يبني التوقعات والآمال عن شكل ردة فعلها: يا ترى هتفرح؟.. أكيد هتنُط من الفرحة.. هي لا تتوقع.. لأنها أول مرة.. ولأنه ولد ذو خيال عفريت اكتسبه من مشاهدة الأفلام جائته فكرة جهنمية هي: طرق الباب ثم الاختفاء تحت بئر السلم. لن تراه. تفتح. لن تجد أحدا سوى وردة على «أوكرة» الباب.

تعال يا عفريت تعال.

يظهر لها. يرى ضحكتها الحلوة. يطير إليها فاتحا ذراعيّ تاركا العالم ورائه إليها أو تاركا نفسه للعالم. قبلات.. وشكر.. عجبتك يا ماما، يسأل. طبعا يا حبيبي.

 

كنتُ وقتها تجاوزت السابعة من عمري تقريبا.. دخلتُ الإبتدائية. سمعت. رأيت. تعلمت، ولم تتغير الوردة ولا الكرت، أصبحا عادة كالكحك والبسكويت في العيد. العادة تُحكم، لكني مللت الورود والكروت. ولم تمل أمي أبدا!

 

وجاءت فترة الإعدادية وخط وجهي شنبا أخضرا جعلني أشعر بالبلوغ مع صوتي الخشن أتساءل مستنكرا كيف يدخل رجل على أمه بوردة وكرت. يجب علي شراء شيئا تستفيد منه. وكل ما هو مفيد ثمين جدا: هذا معناه أيام كثيرة سأمضيها في تحويش المصروف.. أيام سأمكث في بيتي عازفا عن الخروج تاركا وسائل الترفيه. لكن أمي تستحق التضحية. لكن أي تضحية هذه؟!

أنت تعرف أني اشتريت «طقم كوبايات»؛ لأنك فعلت ذلك، كلنا فعلنا.

 

نظرة أمي تكشف عن برائتي، تلك البراءة التي غيبتها قسوة الحياة غيابا يطول ويقصر. وغطتها الواقعية غطاء يراني خلاله الناس غرابا يدعو للتشاؤم في سواده وصوته، بينما الغراب لو كشف عن جناحيه وطار لرأيت منه ألوانا وآمالا كأنه الطاؤوس، ولو تكلم لتحول نعيقه إلى تغريد كروان. 

 

نظرة أمي تكشف عن حالي، تلك النظرة التي تتبعها بسؤال: 

-مالك يا حسن؟

مالي؟!

أحاول التظاهر أن الأحوال بخير أمام الناس، لكن كيف ستخدع مرآتك؟

– أنا بخير..

– أنت هتخبي عن أمك حبيبتك.. 

أجاهد نفسي بألا انظر نحو عينيها، قائلا:

– مفيش حاجة تستخبى..

– بص في عينيّ.. 

 

انظر. ابتسم. تبتسم. وقعت. انكشفت. لحظة فيها ينطق الكتمان ويصير له لسانا يثرثر. أو لحظة يبحث فيها الطفل البريء عن حضن -يختفي فيه من العالم- يحرره من صلابته الهشة إلى هشاشة تخرجه من الجمود الذي صار إليه. بيد أن الكبرياء حولته الى جماد حتى اقترب من نسيان إنسانيته في البكاء. رغم أن الجماد يبكي ويئن!

 

أمي هي سلامة إنسانيتي من الجمود، وترقيق قلبي من الجحود.

 

اسألها كل سنة قبل عيد ميلادها

– نفسك في إيه؟

ترد كالعادة:

– نفسي أشوفك ناجح ومبسوط

– بس كده؟

– آه يكفيني

 

لا يكفيكِ يا أمي حتى الكلام المكتوب.. ما كتبته قليل، وما سأكتبه أقل.. لأنكِ النعمة التي لا أقدر على عدها أو إحصائها. حقك مهدور في الوصف والتعبير لأن ما فعلتيه معنا ولأجلنا فوق الوصف والتعبير.

 

كل سنة وأنا أكتب إليكِ وأنتِ تقرأين..

ما فائدة كتاباتي عامة لو لم تقرأها عيناك؟!

يا ملهمتي.. يا مشجعي الوحيد في الطريق.

ادعوا الله ألا تجعلنا الأقدار نفترق..

ربنا يبارك في عمرك حتى أعوضك جزءا بسيطا عن كل ما مررتي به في الحياة المادية القاسية.. 

كل سنة وأنتِ منورة حياتنا..

كل سنة وأنتِ قادرة تعطينا الأمل رغم كل الألم.

يا جنتنا على الأرض وفي السماء.

ربنا يحفظك يا حبيبتي .. ويسعد قلبك لأنك السعادة الحقيقية..

أنتِ المرأة الوحيدة التي احبتني قبل أن تراني.. ولما رأتني احبتني وستظل تحبني على أي حال كنت وسأكون..

بحبك يا أمي.. لا في كرت معايدة.. بل أمام العالم كله.

المخلص والمحبُ لك طفلا، صبيا، غلاما، شابا، كهلا وشيخا.. حيا وميتا.

 

رئيس مجلس إدارة جريدة القاهرية

كرت مُعايدة ووردة
Comments (0)
Add Comment