كتب/ حمادة توفيق.
اعتنقتْ شاهدَ قبره بيدينِ مرتجفتينِ وعينينِ تنهملانِ بالدموعِ.
– خمسةُ أشهرٍ من الغيابِ ولم تسلْ؟ يا باكورةَ سعدي وأولَ أحلامي الكبارِ، ما عهدتكَ عاقّاً ولا جافّاً.
حامتْ حولَ الشاهدِ ورقاءٌ فجذبتْ انتباهها، ثم طفقتْ تصولُ وتجولُ بين أيكةٍ غيرِ بعيدٍ منها وبين شاهدِ القبرِ.
– كريم!
رفعتْ منديلاً تحتوي به عبراتٍ تترقرقُ بين جفنيها وعلى خديها، ثم عادتْ ترمقُ الشاهدَ بانكسارٍ.
– ولا حتى زيارة واحدة في المنام يا ابن عمري.
عادتْ دموعها تنهملُ تارةً أخرى، ضاقتْ بها ذرعاً فتركتها حتى أغرقتْ خديها، راسمةً عليهما خطينِ طويلينِ.
رفرفتْ الورقاءُ مجدداً فاستقرتْ على أيكتها، وقفتْ تراقبُ ما يحدثُ عند القبرِ كأنها الديدبانُ.
شهقتْ شهقةً وكتمتْ أخرى، ثم أطلقتْ آهاتٍ كأنهنَّ نفثاتُ المصدورِ أو زفراتُ المحزونِ.
– وهانت عليكَ أُمُّكَ؟ ما أقساكَ! كنتَ أحنَّ الورى وألطفهم، كنتَ وكنتَ، ثم ..
أطرقتْ برأسٍ نالَ منها الوجعُ، عادتْ تلتقفُ الشاهدَ بيدينِ مرتعشتينِ، نظرتْ إليه من جديدٍ مردفةً:
– ثم أخبرني حقاً، كيف انقضى عامُكَ الثالثُ في الجامعةِ؟ وما أخبارُ خطيبتكَ الحسناءِ؟ وأحلامُ السفرِ بالخارجِ يا تُرى، إلى أيِّ مصيرٍ صارتْ؟ وخِلَّانكَ الأوفياءُ أين هم؟ لماذا لا أرى منهم أحداً؟ تغيرتَ يا ابنَ عمري، تغيرتَ يا كريم، كيف طابتْ نفسُكَ أن أحدثك فلا تجيبُ؟ كنتَ ثرثاراً كثيرَ الكلامِ فما أسكتكَ؟
شعرتْ بوخزةٍ في صدرها آلمتها، اتكأتْ على القبرِ وافترشتْ الأرضَ، نظرتْ إلى الأيكةِ فلم تجد الورقاءَ، اختفتْ.
– أبوكَ بعد رحيلك طاشَ عقلُهُ وطارَ صوابُهُ وصارَ يحدثُ نفسهُ كمن جُنَّ، وحُقَّ له أن يُجَنَّ، ألم تكن ابنه الوحيدَ؟ ألم نُرزقْ بكَ بعد سبعٍ عِجافٍ من عدمِ الإنجابِ؟ سبعُ سنواتٍ كأنهنَّ الدهرُ، وأنا أُمنّي نفسي بمولودٍ يرسمُ البسمةَ على وجهي ووجهِ أبيكَ، ويجددُ في قلبينا الأملَ، ثم ترحلُ؟ هكذا؟ بلا مقدماتٍ؟ ما أقساكَ وربي! والله يا كريم، لولا وازعُ الإيمانِ في قلبي لقتلتُ بعدك نفسي.
رفعتْ ناظريها إلى السماءِ وبسطت يديها:
– يا ربُّ طالَ العذابُ فهوِّنْ.
ثقلت رأسها فأسندتها على القبر، مرت ساعةٌ أو بعضُ ساعةٍ، آبتْ الورقاءُ بعد اختفاءٍ طالَ فدنتْ منها، اقتربتْ حتى صارتْ قاب قوسينِ منها أو أدنى، ناحتْ بجوارها كالتي فقدت فرخها، لكنها وعلى غيرِ العادةِ لم تلتفتْ إليها، بل لم تشعر بوجودها، لم تشعر على الإطلاق.