سمير المطيعي يكتب شربات فرح طنط عفيفة

 

اصطحبتني والدتي بعد ظهر أحد الآحاد حينما كنت غلاما دون العاشرة، شعور مملوء بالسعادة لأن اليوم الاحتفال بزفاف طنط
عفيفة ، ولم لا أفرح؟ فطنط عفيفة قدمت لي ولأختي في العيد الماضي سيارة مصنوعة من البلاستيك الخفيف أكبر قليلاً من حجم علبة الكبريت ، أستطيع الآن أن أقول أنها كانت على شكل سيارات “الفولكس” وما نطلق عليها شكل” الضفدع” كانت سيارتي
صفراء اللون وكانت السيارة الوردية من نصيب شقيقتي الصغيرة .


ولما كان من المستحيل أن ألعب بسيارتي حينما أكون جالساً على الأرض بملابس العيد الجديدة وكذلك أختي الصغيرة بفستانها الواسع الفضفاض الذي يشبة بكرانيشه فساتين البالورينا وحذائها اللامع كالمرآة على جوربها الطويل الأبيض، فقمت بربط كل سيارهة بخيط رفيع وأخذنا نجري بها فوق بلاط السطوح الأبيض النظيف بالمنزل القديم جداً الذي تقطن فيه طنط عفيفة ووالدتها العجوز جداً .
فكل منا كان يجري في اتجاه وكنت أخرج صوت من فمي بعد أن أقنعت نفسي بأن سيارتي بها سائق مجنون ومحرك عالي
الضجيج وكان لا ينقص سيارتي إلا صوت آلة التنبيه فأخذت على عاتقي أن أنبه المارة وجمهور العابرين غير الموجودين أعلى ذلك
السطح الفسيح جداً لذلك المنزل القديم المتهالك ذو الطابقين حيث كانت طنط عفيفة تقطن بالدور الثاني أعلي شقة مهجورة،
كنت أظن أنها سكنى للعناكب والجان والعفاريت وكانت أسرة طنط عفيفة تعيش في شقة متسعة جداً ذات سبع أو ثمان حجرات وكانت أرضيتها من الخشب المتهالك وخشب بعض الحجرات عليه طبقة من مشمع متهالك ذو شقوق ، وكان أي فرد يسير في الشقة من أسرة طنط عفيفة أو أحد ضيوفهم يسمع
الجميع صوت أزيز ذلك الخشب المتهالك، سقف البيت مرتفع جدا وكل شيء بالبيت قديم أما السلم المصنوع من الحجر الجيري
السمني اللون فله معي حكايات مضحكة، فكان ذو درج
كبير غزاها شروخ كثيرة فأهلكت معظمه بل أصبح غالبيتة بسطح وملمس خفيف أجوف تآكل بمرور وعوامل الزمن في منطقة
الوسط وعالي نسبياً عند الطرفين بجوار الحائط، ومن الناحية الأخري بجوار الدرابزين الذي يربط ويحرس درجات السلم من
الدور الأرضي حتى السطوح ، الدرابزين من الحديد ذو الأشكال الفنية ذات الطابع الأوروبي، وكان يحلو لي عند زيارة ذلك المنزل
أن أنزل راكبًا ذلك الدرابزين متشبها بفارس علي حصانه هابطًا بسرعة البرق من الدور الثاني حتي أصل لنهايتة المعقود عليها
أحد التماثيل الحديدية بالدور الأرضي، فكان هذا التمثال بالنسبة لي واقفاً وحائلاً دون سقوطي علي الأرض بالدور الأرضي، وعند
وصولي إلى نقطة النهاية سرعان ما أعلن فوزي على جميع الكبار النازلين بحرص شديد علي السلم القديم خوفاً من وقوعهم أو
انزلاق أحدهم وهم ممسكين بقوة بذلك الحديد الأسود والصدء الفاقد الطلاء في معظم أجزائه، حوائط المنزل الخارجية ترى من خلالها تلك الأحجار الجيرية المتهالكة التي أحنى عليها الزمن حجارة مشبعة بالرطوبة يسقط منها ملح ناعم ممزوج برمال
دقيقة بمجرد أن تلامسها أصابعك،كذلك حجارة المدخل متآكلة غير مستوية ذات تعاريج للداخل لمسافات متفاوتة تنبئ
الداخلين بأن هذا المنزل قديم جداً وآيل للسقوط قريباً، أحببت طنط عفيفة فاليوم حفل زفافها ، اليوم يجلس عشرات
من الضيوف والأهل والأصدقاء بشقتها الواسعة جداً ، لم أر في ذلك المساء طفلاً واحداً قريباً من سني أو نحو ذلك إلا واحداً فقط كان يصغرني قليلاً، أريد أن أقتل ذلك الوقت الكئيب البطيئ، أريد أن ألعب، وتساءلت لم لا ألعب مع ذلك الصبي حيث لا
مكان لي بين جموع الكبار ، هذا يتحدث مع ذاك وآخر يقهقه مع باقي الضيوف وأخرى تتسامر مع الجالسة بجوارها التي كانت
والدتي ..سأذهب له لألعب حيث لا اختيار آخر لي فأخذت ركناً في أحد الحجرات وفي مرمى البصر عن الصالة المتسعة التي أزيح
منها كل الأثاث ووضعوا في المنتصف تحت أنوار براقة مرسلة من نجفة قديمة جداً ذات طابع أوروبي يهبط ساقها من ذلك
السقف العالي ذو ديكورات مجسمة في كل زواياه برؤوس تماثيل حيوانات، وتنير حوائط مرسوم عليها رسومات قديمة باهتة الألوان أستطيع الآن أن أقول أنها كانت فنون ورسوم على طراز العصر الفيكتوري والنجفة كثيرة الأذرع المنحنية والمتعرجة لأسفل وأعلي وكثيرة الطبقات ذات عنقود ذهبي غليظ يتدلى من فروعها قطع بلورية كثيرة العدد شديدة الشفافية جعلت من الحوائط رغم قدمها كالصفحة الفضية والذهبية المرصعة
بالمرايات المتلالئة.
احتلت السفرة المستطيلة المغطاة بمفارش بيضاء الصالة بطولها ووصلت اِلي آخر الحجرة المجاورة علي امتداد الصالة ، قال
لي صاحبي الصغير بعد أن قطع حديثي معه عن مدرسته ومدرستي ومعلمته ومشاكله العويصة في المدرسة لأنه لم
يستطع إنهاء واجبه المدرسي لهذا الأسبوع بسبب انتظاره ليوم
الفرح-فرح طنط عفيفة- همس الصبي في أذني بصوت خفيض: يالها من سفرة كبيرة واستطرد يسألني: هل رأيت المطبخ وما فيه
من طعام وما لذ وطاب ؟ قلت له لم أستطع الدخول ناحيته حتى لا أُغضب طنط عفيفة .. لهذة اللحظة لم أر العروس وكنت لا
أعرف أنها في غرفة بعيدة ومعها البنات وبعض النسوة يقومون
بمرحلة تجهيز العروس للفرح.، كل ما رأيته حتي هذة اللحظة شباباً
هنا وهناك بعد أن قدموا كثير من الشربات الممزوج بقطع صغيرة من الثلج و بألون زاهية داخل كاسات كريستالية طويلة عليها
نقوش ورسوم بيضاء شفافة كما لو كانت مرصعة بحبيبات وفتافيت من السكر ، تملكتني سعادة لا أعرف مصدرها في كل
هذا الحفل حينما رأيت ولأول مرة شربات ذو لون أصفر ، ياله من لون بهي جذاب، شربات بلون أصفر !
سألت نفسي وصاحبي: هل هذا شربات؟ قال لي صاحبي في هذه اللحظة: نعم عندهم شربات أحمر وأصفر ، شربات كثير لأنهم أغنياء ، هل أنت جوعان ..سألني ؟ قلت: لا، بل . وبشئ من الخجل والصوت الخفيض قلت له: أريد أن أشرب من ذلك الأصفر .لأول مرة أرى هذا اللون فدائماً أشرب الأحمر ، وبدوري سألته هل سبق وشربت شربات أصفر من قبل ؟ قال: نعم، مرة واحدة منذ مدة طويلة.
.استأنف صاحبي الذي لم أعرف اسمه بعد حتي نهاية الفرح.. عندهم حاجات كتيرة غير الشربات الأصفر ، عندهم موز، لم يذكر
الصبي أي شئ سوي الموز .
هنا وبدأ الشباب اليافع بحماس
يضعون الطعام علي المنضدة بتوجيه من رجل يرتدي جاكت
أبيض وبنطال من نفس اللون عريض المنكبين سمين الجسم ذو كرش كبير مستدير يلبس قبعة تشبه قبعة المهرج مستديرة
الشكل طويلة عالية فوق رأسه، إلا أنها بيضاء اللون، كان هذا الرجل يأمر الشباب بصوت غليظ عال.. “علي مهلك ، هنا ياض،
مش كده، استني الطبق ده يتحط هنا وانت ياجدع الطبق الغويط، ده بتاع السلاطة حطة هناك علي اليمين ” واستمر يأمر ويوجه
لمدة ليست قصيرة إلى أن ترك الصالة واتجه للمطبخ وعاد بصحبة ثلاثة شباب منهم حاملين سوياً صينية كبيرة في حجم
صواني بائع الكنافة تقريباً، ووضعوها في منتصف المائدة تحت النجفة الكريستالية ، تلألأ من ضوء البلور المنعكس على الصينية
خروفاً محشياً لا أتذكر ما به هل أرز أم فريك أم مكسرات غالية الثمن أم شئ آخر؟
اما الشباب ففي كل هذا كانوا يهرجون ويضحكون ويتفاكهون
بتقليد الرجل السمين دون أن يراهم.
ومرة أخري خرج شابان يحملان صينية أصغر من الحجم السابق في وسطها ديكاً رومياً كبير الحجم وضع في طرف أقصى المائدة ،
ووضع آخر من الجهة الأخري ، مازلنا ننظر إلى خلية النحل والضيوف كل في مكانه يرغي ويزبد خاصة السيدة الجالسة بجوار
والدتي ، نجحت في وسط هذه المظاهرة أن أتسلل إلى حجرة صغيرة بجوار المطبخ بها شباك صغير ذو زجاج إنجليزي لا
يستطيع أحد أن يرى من خلاله أي شئ وبدون استخدام ستائر .
وتجلس تحته سيدة عجوز من أقارب العروس وسألتها بصوت خفيض وأشرت بسبابتي المرتعشة من الخجل علي صينية وإناء
زجاجي كبير مملوء من النوع الأصفر حتي أضمن ألا تعطيني من شربات الورد الأحمر،
تبدد خوفي وتحقق حلمي الصغير حينما أشارت لي علي الصينية
قائلة: خذ هذا الكوب يا حبيبي.. كان موضوعا علي الصينية مملوء ومثلج ومرصع بقطرات الماء البلورية من الخارج .. كان كوبا ليس
طويلا وليس به نقوش ولكنه كان سميكاً ثقيلاً كما لو كان مصنوعاً خصيصاً للأطفال وضد الكسر إذا سقط من أيديهم،
خرجت بكوبي المملوء بالشربات الأصفر، أسير بخطى حريصة ممسكاً وبحرص أشد ومتمهلاً حتي وصلت إلى صاحبي الذي لا
أعرف اسمه، جلست بجواره ناظراً إليه بابتسامة الحائز على جائزة طال انتظارها ، وبنفس الهدوء رافعاً يدي الممسكتان
بالكوب قرب طرف شفتي ومددت عنقي بمبالغة لأسفل لأسحب
قليلاً جداً من ذلك المشروب ذو المذاق السحري .
قلت لنفسي: لابد أن أشربه علي مهل وفي أطول مدة ممكنة لأنه مشروب غال
ومختلف، فأخذت أرتشف قليلاً حتي لا أنهيه، ثم قلت للصبي الجالس بجواري:اذهب لتلك الحجرة الصغيرة وخذ كوبا
مثل هذا إنه حلو المذاق ..فالعجوز هناك لديها كثير من الشربات
.. فأجابني بكل بساطة وأريحية.. لا..أنا لا أريد أن أشرب شربات…
أنا سأنتظر حتي ألتقط صابع موز واحد لأنني أحب الموز .
لم ننتظر طويلا فجاء الجميع والتفوا حول المائدة ، جاء العريس والعروس وأهلهما وسط تصفيق حاد ، عبارات وتحيات
وتهاني وسلامات ،بدأ الجميع تناول الطعام ، كل يأخذ جزءاً من
كل شئ، ما طاب من الأكل ، أما صديقي فكان واقفا بجوار كومة الموز الموضوعة هناك بجوار الحلوى والجاتوه … مازلت ألهو
وأرتشف من الشربات الأصفر قليلاً قليلاً ولا أعير للطعام أي اهتمام … أكل
الجميع وتناول كل منهم ما يريد من فاكهة وحلوى وجاء موعد المغادرة ، اصطحبتني أمي من يدي فوضعت الكوب جانباً في
ركن علي المائدة ونظرت إلى صاحبي من بعيد ، رأيتة يبكي بكاءًا
مرًا، لم يفهم أحد سر بكائه اِلا أنا ، نعم أنا أصغر المعازيم مثله ، إنه يبكي لأنه بعد أن أنهى طعامه من طعام ومشويات فشل في
الحصول علي إصبع واحد من الموز الذي كان يحلم به، لقد نزل الكبار علي تلك الفاكهة السريعة الأكل اللذيذة المذاق فأنهوها وأصبحت المائدة خالية من الموز …نعم لقد التقطوا أصابع
الموز قبل أن ينالوا نصيبهم من الطعام أما صاحبي الصغير فلم يفز بواحد منه .
خرج الجمع من الشقة تباعاً بعد تقديم تهانيهم للعروسين، خرجت وراء والدتي وبدأت رحلة النزول وكذلك رأيت الجموع
هابطين علي السلم المتهالك بحرص شديد ، وفعلت مثلهم ، فالليلة لا أستطيع أن أنزل على الدرابزين كعادتي ، وقف الجميع
بالشارع وسط طبول ومزمار من مجموعة من الرجال يحمل
أحدهم طبلة كبيرة ويضرب عليها بعصاة رقيقة ورجل ثان ينفخ في مزمار طويل وثالثهم ينفخ على ناي مصنوع من الغاب أما
رئيسهم فكان يضرب على ربابة ، ويغنون ويتمايلون منفعلون
بكلمات غنوتهم وموسيقاهم فتتدلى من رؤوسهم لاسات بيضاء
لتنزل علي أكتافهم وتتحول إلى كوفية على أعناقهم بعد أن كانت ملفوفة كعمامة على رؤوسهم ، يتراقصون بوقار في جلاليب
طويلة تتلامس مع الأرض وواسعة أظن أنها مصنوعة من الصوف الغالي الثمن … يغنون بالمووايل أما المعازيم وأقارب العروسين
الذين يقومون بتقديم نقود لهم علمت بعدها أن هذا يسمى نقوط ، والجميع واقفون انتظاراً للعروسين.
أخيرا نزلا إلى الشارع ودخلا سيارة كبيرة الحجم نسبياً ، ذهب كل المعازيم بعد
التهاني والقبلات الحارة والتمنيات مرة أخرى، وتهاني خاصة لوالدة العروس الواقفة على الرصيف مستندة علي كتف إحدى الفتيات ، شقت السيارة طريقها ببطء وصعوبة وسط الجمع والطبل والمزمار وضجيج الشارع والصبية الذين أتوا من كل اتجاه
حينما سمعوا صوت الطبول.
انقطعت أخبار طنط عفيفة لسنوات فهي تسكن الآن بعيداً عن هذا الحي وعلمت عن انهيار ذلك المنزل القديم بعد الفرح
بأيام قليلة ، وأثر ذلك كان ولابد أن تذهب العجوز لتعيش مع ابنتها طنط عفيفة فمع بداية تساقط أجزاء من الحوائط يوماً
بعد يوم حملت العجوز لمنزل ابنتها وكان هذا بعد الفرح بشهور قليلة ، وانهار المنزل وترك الركام شهوراً وسنين ، وبالمصادفة
البحتة كنت أمر بالشارع وإذ يمر بخاطري شريط الذكريات كله عن
ذلك المنزل القديم وناسه الطيبين،نظرت فرأيت عمالاً وبنائين يبنون عمارة علي تلك الرقعة الخالية التي كانت في يوم من الأيام
منزلاً لطنط عفيفة ، سألت أحد الشباب الواقفين علي الرصيف المقابل وكان ممسكاً بلوحة بيضاء كبيرة مرسوم عليها رسوم
هندسية باللون الأزرق رأيته يتحدث ويتحاور مع المقاول ويرشد البنائين، ففهمت أنه المهندس المعماري المسئول عن التصميم
والبناء ، سألته عن البناء وأصحاب البيت أو أصحاب الأرض السابقين ، فوجئت أن المهندس الشاب يعرفني ولم أعرفه،
وبابتسامة خبيثة قال لي أن صاحبة المنزل سيدة تدعى طنط عفيفة بعد وفاة والدتها العجوز ، قامت باستدعائي لبناء عمارة
عالية على الأرض الواسعة، تعرفت عليه من ابتسامته ، إنه الصديق القديم الذي تعرفت عليه يوم فرح طنط عفيفة ،
الصديق الذي ودعته وسط دموعه لأنه لم يحصل علي صباع واحد من الموز وكنت أنا قد فزت بكوب من الشربات الأصفر ، إنه
المهندس الذي جاء ليبدع بفنه ويبني عمارة علي بيت كان متهدما خربا ، أصر علي أن أشرب معه كوبا من الشاي بعد أن تذكرنا ذكريات عابرة رغم قدمها ، قلت له لن أشرب معك شاي ، سأشرب شربات أصفر وسأطلب لك كيسا من الموز ، ضحكنا وافترقنا ومازلت لا
أعرف اسمه حتى الآن .

 

شربات فرح طنط عفيفة
Comments (0)
Add Comment