كتب/ حمادة توفيق
أدارَ ظهرهُ لأبيه، لأولِ مرة يفعلها، ربما منذ أن أشرقت شمسُ حياته ورأتْ عيناهُ النورَ، تقدم إليه رجالٌ غلاظٌ شدادٌ فتشبثوا به، قاومَ، لكنهم وبكلِّ قوةٍ أداروه ليواجهَ أباه، بينما غيرَ بعيدٍ وعلى بعدِ مترينِ اثنينِ توجَّهَ رجلٌ آخرُ لا يقلُّ عن إخوانه شدةً وغلظةً ببندقيةٍ إلى رأسِ أبيه، ارتعدَ وارتعشَ واضطربَ، وكادَ يتداعى كبناءٍ ينقضُّ.
– آهٍ يا أبي.
أطلقها صرخةً مدوية فكأنها نفثةُ المصدورِ أو زفرةُ المحزونِ، هنا ارتجّتْ السماءُ وجعًا، وانفطرَ قلبُ الأرضِ فمادتْ واهتزتْ، وكادتْ أن تنشقَّ فتبتلعَ العداةَ.
– دُلَّنا على شركائك من الفدائيين نحرر أباك.
ياللوجيعة! إنهم يخيرونه بين وطنه وأبيه، أيختارُ وطنه إذن فيخذلُ أباه، أم يختارُ أباه فيخونُ وطنَه؟
لم يكن أبدًا ضعيفًا ولا جبانًا، ولم يكن في قلبه أعظمُ من ولائه لوطنه، بيدَ أنَّ حبه لأبيه يسيطرُ عليه، هي كلمةٌ، كلمةٌ واحدةٌ لا غير، كلمةٌ ستكونُ الفيصلَ وسَتُحدَّدُ المصيرَ، فإما ينجو رفقاؤه وإما ينجو أبوه، كلمةٌ وما أصعبها من كلمة!
نظرَ إلى أبيه المقيدِ بين نخلتين وسالت دموعه، فرمقه أبوه في شموخٍ وكبرياءٍ.
– إياك.
هزَّ رأسهُ في أسفٍ، بينما تداعت أمام عينيه مشاهدُ صباه، لتذكره بأحضانِ أبيه، بابتساماتهِ الرقراقة، بحدبه وحنوه، بعطائه وسخائه، بعينيهِ اللامعتينِ بفرحٍ أو دهشةٍ.
– آهٍ يا أبي.
انتهره الرجالُ بقسوةٍ، فهم في أمسِّ الحاجةِ إلى معلوماتٍ هو مصدرها الوحيد.
مرتْ الدقائقُ كالدهرِ، وكاد قلبه أن يتوقف، طفقَ يسترقُ النظرَ إلى أبيه تارةً وإليهم أخرى.
– لا تكن خائنًا يا ولدي، فالخائنُ أقصرُ الناسِ عمرًا، عش رجلًا ومت رجلًا، والموعدُ الجنةُ.
استدارَ مرةً أخرى وقد سالت من عينيه الدموعُ كالنهرِ الجارفِ.
صوبَ حاملُ البندقيةِ بندقيته وصاح: عاشتْ إسرائيلُ.
ثم أطلق الرصاص، بينما انهار هو أرضًا وجعلَ يصرخُ حتى بُحَّ صوته، وغيرَ بعيدٍ منه سالتْ دماءُ أبيه فاستحالت الأرضُ حمراءَ، وناحت على الأيكِ حمائمها ..