((باريس اللاهية ) أو بسكرة بعين الكاتب الالماني (هاينريش فون مالستان)

متابعة عبدالله القطاري من تونس

في كتابه تلاث سنوات في غرب شمال افريقيا: ترجمة ، المؤرخ ( ابو العيد دودو ) في هذا الكتاب يصور لنا الكاتب الواقع كما هو وذلك من خلال ما شاهده وعايشه في ذاك التاريخ ،تاريخ الاحتلال الفرنسي في الجزائر في الثمانينيات.
فيحدثنا عن رحلته ،في شرق البلاد الجزائرية وجنوبها من تبسة الى قسنطينة، ومن هناك انطلق الى الصحراء فتوجه الى الامين الولائي( بسكرة)
و (توقرت) وذلك سنة 1862م وهنا نذكر مايتميز به مالستان في هذه الرحلة، وحرصه الدائم على تقديم صورة واضحة عن العادات والتقاليد الشعبية، وعن بعض النماذج البشرية. كما انه لم يهمل بعض الحكايات، والاساطير والقصص الطريفة، ويرويها بطريقة فنية ،مميزة،
كما يقدم لنا هذا الرحالة عدة شخصيات شيقة ،بعضها من عامة الناس وبعضها الآخر من الشخصيات السياسية..
فما من مدينة جزايرية زارها إلا وقدم لنا شخصية ما، او عدة شخصيات .
وحين لا يجد، يكتفي بوصف النماذج التي ترافقه او النماذج التي يلتقي بها اثناء ترحاله كما يحدثنا عن قسنطينة وبسكرة عندما زارهما، كما تحدث عن شيخ مدينة (توقرت) وهي طرفة نادرة وقصة غريبة ، ولكن المؤلف رواها على انها حقيقة، وكيف ان الشيخ عشق تمثال المراة النصفي وضمه الى الحريم من زوجاته.
ومن القصص الرائعة التي حكاها عن نشأة الصحرا حسب رواية شيخ توقرت ،
والتي تحكي عن الصراع الذي قام بين الملوك الثلاثة ، ملك الزاب، وملك واد سوف، وملك واد ريغ .
وعند الحديث عن بلدي بسكرة ،يقف الكاتب على بوابتها فيقول:
اجمل لحضة في حياتي هي اللحظة التي استقبلتني فيها بعد دخولي الصحراء الخالدة ،مباشرة الواحة الوديعة وغمرتني، بظلالها الكريمة ونجوم الليل تضيئها يقول : مالستان: إذا كان الشبان المرحون قد أثنوا في قبو أوربا على مدينتهم لايبتسيغ وسموها باسم باريس الصغيرة، فإن اعتزاز اهل بسكرة بمدينتهم لا يقل عن ذلك، فهي بالنسبة لهؤلاء الذواقين(باريس الصحراء) انها مدينة التسليات المتواصلة، التي لا يبدو وان فيها انسانا يمارس عملا ما ، والتي تزدهر فيها الصناعات المرتبطة بالبطالة الحلوة ازدهارا كبيرا، فما من ساكن واحة من الواحات المجاورة إلا ويذهب لقضاء عطلته في باريس الصحراء حين تكون له رغبة في ذلك،. ويقوم ابناء بسكرة باعمال مرهقة في الجزائر العاصمة ،وعندما يوفقون بعد الكد والعناء الى توفير نصيب من المال يعودون الى بسكرة، الى باريسهم ليعيشوا بين رقصات الزنوج ودربوكة بني ميزاب منصرفين الى اللهو ان صرافا تاما ،
ولم تكن بسكرة في العصر الروماني مجردة من اهميتها، فقد كانت تدعى في ذلك الحين زابا ، وهو الإسم الذي احتفظ به هذا القسم من الصحراء، فالعرب يطلقون على هذا القسم كله اسم الزاب، ويفضلون في الغالب استعمال صيغة الجمع ( الزيبان) وكانت زابا في القديم تشكل عاصمة ( الحدود الزابنسية)التي سميت باسمها،كان يحكم هذه المقاطعة ظابط روماني باعتباره قائد قوات الحدود ،وما إن وصلنا الى بسمرة، واتخذنا محلا لإقامتنا عند عطار محلي ،ولا بد من العطارين في هذه المناطق ، حتى اعترانا الحذر والدوار بسبب ما في بابل الإفريقية هذه من ضجة وجلبة.ولم يكن في وسعي ان
أنام في غرفتي،ولا ان اقرا ، ولا أن أكتب، لم يكن في مقدوري أن أفعل أي شيء آخر غير الإصغاء الى الضجة المتواصلة التي كانت تصل الى من في المقاهي العربية العديدة.
لذلك اقترحت على زميلي في الرحلة ان نربط هذا الإصغاء، مادام قد حكم علينا ان نستمع الى هذه الضجة، بدراسة الحياة الشعبية على الأقل، ومن ثم نستفيد من هذا الوضع المزعج ، وكان لابد ان يتم ذلك في المكان الذي تنطلق فيه تلك الضجة.
وهكذا امضينا الى الشارع الرئيسي، وفي نيتنا ان نجلس في احد المقاهي العربية الكثيرة، التي كانت تبدو وكأنها تحاصر المدينة . كنا طبعا نريد ان نبحث عن مقهى ، تتجلى فيه حياة المدينة على الوجه الأكثر حركة وأصالة، ولكن الاختيار لم يكن سهلا-
فقد كانت المقاهي كلها تبدو نشيطة أصيلة، وتحتوي على نفس العدد المتنوع من شاربي القهوة ومن الراقصين والراقصات، ولم نستطع اتخاذ قرار حيال( الغزارة المربكة)، فاخذنانذرع الشوارع ذهابا وإيابا، واكتفينا بمشاهدة المظاهر الخارجية-
كانت الشوارع عريضة، ولكنها لم تكن طويلة،فبسكرة ليست سوى ( باريس) صغيرة وصغيرةجدا رغم انها سميت ( باريس) ولذلك لا أكاد أجرؤ على القول بأن عدد سكانها يناهز الثلاثة آلاف- وبيوتها كلها ذات طابق أرضي وكانت دار القايد العسكري الوحيدة، وكذلك الثكنة ثم القلعة ،ترتفع فوق العلو العادي لهذه البيوت التي تشبه حجر حيوان الخلد-
وكانت البنايات كلها تقريبا جديدة، استعملت فيها مواد البناء الفرنسية، اي انها مبنية بالآجر،ذلك ان بسكرة المتمدنة قد تخلت عن الطوب الذي كان يستعمل في بناء جميع قرى الواحات، مه ان هذه البنايات لم تكن تشبه الدور الفرنسية –
فقد احتفظت بطابع شرقي إلى حد ما ،وذلك عن طريق انخفاضها وخلوها من السقوف الاوربية التي عوضت بالسطوح-
وكان الشارع الرئيسي يحتوي على عدد كبير من الدكاكين العربية الصغيرة، والتي كان يبدو عليها انها تصلح لجلوس العاطلين والكسالى من الاهالي أكثر مما تصلح للمعاملات التجارية- وكان هناك عدد من المحلات الأوربية ومخازن يهودية قليلة، تتولى تزويد المدينة الصغيرة بما تحتاج اليه من كماليات الحضارة الحديثة وضرورياتها ،آن ذاك،
يقول الكاتب : اذا استثنينا افراد كتيبة الفرقة الاجنبية المقيمة هنا فإن عدد الأوربيين قليل جدا، ومن بين هؤلا القليلين تالق طبعا عطاري بصفته نجما من الدرجة الاولى ، وسناتي لذكر الحديث عنه لاحقا-
وكان اكثر ما لفت انتباهي، فيما يخص سكان بسكرة، وجود عدد كبير من الفتيات في الشوارع،وهن من تلك الطبقة التي تعود الناس في مصر ان يطلقوا على افرادها اسم العالمة، اما هنا فإن هؤلاءالفتيات يطلق عليهن اسم القبيلة التي ينتمين اليها كلهن تقريبا، أي النائلية ، نسبة الى أولاد نائل، وهم من البدو الرحل ،الذين يجوبون القسم الاكبر من الصحراء، وهؤلاء الفتيات يخرجن سافرات ويتحلين بجواهر ذات اشكال غريبة، وشعورهن السوداء الطويلة منسدلة فوق صدورهن السمراء العارية-
وكن يرتدين لباسا واسعا ذا أكمام ، مصنوعا من القماش المزركش، تعلق فوقه ايضا أنواع من الحلي، وكن يسرن عبر الشوارع ، وينظرن الى المارة في لطف، ويشرن اليهم إشارات خفيفة ويتوقفن ليبادلنا احدهم بضع كلمات، ثم يواصلنا السير ، ويلقين نظرة على باب مقهى من المقاهي ،ويدخلن اليه، إما للرقص ، وإما لتناول فنجان قهوة مع أحد المعجبين الكثيرين، وكن في بعض الأحيان يلعبن مع الشبان البسكريين ويتراكضن معهم كالقطط المسعورة عبر الشوارع والأزقة، او يجلسن حين ينال منهن التعب امام بيوتهن الصغيرة الشبيهة بالمغارات، التي كن قد استأجرنها، ليستقبلن المعجبين بهن بين السر والعلانية، كنا من شغلين بدراسة النموذج النائلي من خلال النماذج التي كانت تمر بنا، عندما لتفت انتباهنا وبالتالي استبد باهتمامنا ظهور ثلاثة شخصيات غريبة، ترى من هم أولائك الملثمون ، الذين يسيرون عبر شوارع بسكرة ببطء ومهابة،؟ لا يمكن ان يكونوا نساء ، فقاماتهم الطويلة لا تسمح لهم بان يكونو شيئا آخر غير الجنس الخشن، ومع ذلك كانوا ملثمين ، كالنساء الحضريات ،فقد كان اللثام يصعد حتى اطراف عيونهم، وعصابة الراس تنزل بدورها حتى اعالي عيونهم،ولكن اللثام لم يكن من القطن الابيض كما هو الحال عند الحضريات ، وإنما كان من الكتان السميك الاسود المصنوع من الصوف ، ومن ثم كان يخلع على الوجه منظرا قائما مفزعا،بل مثيرا للرعب، وعندما كان هؤلا الرجال يتكلمون او يحركون فكوكهم،فإن تلك الحركة تنتقل الى الاقنعة السوداء ،فتجعلها تبدو كافواه الغيلان رهبة ،وباالإضافة الى ذلك كان هؤلاء الرجال ملفوفين في العديد من الألبسة الواسعة، الى درجة أن شخصياتهم،بدت وكأنها فقدت كل ما لها من ملامح إنسانية والتخذت اشكالا غريبة-
ولم يشاركنا أهالي بسكرة في فضولنا هذا إطلاقا،فقد كانت تصرفاتهم حيال هذه الكائنات الغريبة كما لو أنها كانت بشرا مثلهم لا مسوخا شيطانية-
كانت هذه الكائنات تتحرك ببطء ،وتسير مترنحة، وبعد مرورها بنا اتجهت نحو مقهى في الجهة المقابلة ودخلت اليه،ولم نستطع انا وزميلي السيطرة على فضولنا، فتبعناها الى المقهى-
ولم يكن المقهى الذي دخلنا اليه مطابقا لأسم( باريس الصغيرة) الذي خلعه البسكريون الطموحون على مدينتهم،فقد كانت جدرانه عارية مجردة من كل زينة تافهة-
ولم يكن للكراسي وجود،في هذا المقهى إلا أنه كان مسموحا لكل شخص أن يعتقد الأرض،ويجلس تلك الجلسة التي يجلسها الأهالي،ولا تستطيع لغتنا الفقيرة التعبير عنها الا بشكل تقريبي،بأفعال ( جثم) ،و ( قبع)، و(قرفص) –
كان قد جلس فوق الحصيرة التي كانت تغطي ارضية المقهى، حوالي خمسين شخصا،ما بين عربي و بسكري وقبائلي وميزابي ونائلي وتوقرتي وأغواطي، وباختصار اناس من جميع مناطق الجنوب الشرقي، وكذلك من جميع الواحات الصحراوية، كان هؤلاء الرجال قد قبعوا( اذ لا يمكن الحديث عن الجلوس الا بالنسبة لعدد قليل من الأهالي) في أوضاع مختلفة، وكان يبدو عليهم كانهم يقلدون المملكة الحيوانية بأسرها في وضع نماذج اللبونة والبيوضة-
فهذا بسكري يبدو عليه انه اتخذ من إبن آوى قدوة له،فقد رفع ركبتيه الى اعلى ووضع راسه الطويل الرفيع بينهما،ثم رفع رأسه وتثاءب ، وأي جزائري لا يتثاءب عشر مرات في خمس دقائق، وفتح فمه في تشنج ! فتعلق لسانه الرفيع خارجه، كان على هذا الانسان أن يغضب على الطبيعة،لأنها بخلت عليه بموهبة بالنباح-!
وكان قد جثم الى جانبه نموذج آخر من نماذج المجموعة الحيوانية الإفريقية، وهو الشيهم ، وقد مثله اغواطي بدين ،كان متكورا على نفسه بشكل غريب، ولم يكن في الإمكان رؤية وجهه،إلا انه لم يكن من الصعب من جهة اخرى ان يعرف المرء انه لابد ان يعود الى الظهور قرب فخضه، وجلس ثالث وهو توقرتي،بذل جهده في ان يكون شبيها بضفدعة قدر المستطاع، فقد كان قابضا فوق قدميه،وكان وجهه بانفه الاقصى، وفمه الكبير ينم عن شبه بالسلحفاة، وفي استطاعة الانسان أن يتصور انه يبدو حين يمد ذراعيه الرفيعين الطويلين الشبيهين بقوائم الضفدعة كما لو انه يريد ا ن يطفر ثانية الى المستنقع الأبوي، كان يظهر ان كثيرا منهم اختاروا تقليد بعض الطيور، فقد جلست هنا بومة لا تكاد قوائمها الصغيرة ترى،وهي تهز ذيلها، وجلست هناك وزة تنظرأمامها في غباء ،وبجانبها بومة جاثية تحدق في بلاهة-
وهكذا اتخذ كل منهم وضعا يمكن ان نسميه الجلوس ! اما الجلسة الشرقية المعروفة، التي تتمثل في ثني الساقين، إحداهما فوق الأخرى فلا يحسنها في الجزائر غير عدد قليل من حضر مدينة الجزائر، اما الباقون فيقرفصون او يتربعون، او يمتدون بكل بساطة-
وجلس الرجال الثلاثة الملمون الذين تبعناهم الى هنا فوق الارض ايضا ،وذلك بطريقة اصيلة،فقد حاول احدهم ان يجلس علىظهره بدل الجلوس على مقعده، بينما جثى الثاني، اما الثالث فقد بدا عليه فترة طويلةانه لا يعرف ماذا يفعل برأسه وفي النهاية قرر ان يضع هذا الاثاث التافه تحت ساق رجل آخر، وقد طلب هؤلاء القهوة ، ولست ادري كيف استطاع القهوجي ان يفهم طلبهم ، وجاءت القهوة فراحوا يشربونها، إلا انه لم يكن يبدوا عليهم انهم يصبون القهوة في افواههم ،وإنما يصبونها في في الخرق الصوفية السوداء التي تغطي وجوههم ذلك اننا لم نرى وجوههم أكثر مما كنا نراه من قبل- تلخيص يونس عبد الحفيظ ، –

(أملي ان يستفيد منه المتتبعين لتاريخ الشعوب والقبائل في فترة منسية من تاريخنا والتي لم يكتب بأقلام كتاب عرب ، وللعلم ان هذا الكتاب حافل بالقصص التاريخية والحكايات المشوقة قد تصلح حتى للمسرح او السنما))

((باريس اللاهية ) أو بسكرة بعين الكاتب الالماني (هاينريش فون مالستان)
Comments (0)
Add Comment