احمد حشيش
نعم، الغباء أيضا تتم صناعته تماما كما هو الذكاء الاصطناعي، فهذا الأخير مبهر بتطوراته وتجلياته وقوانينه، لكنَ قوانين صيغت في الغباء البشري تبدو مبهرة بدورها! ألم يحدثنا ألبرت آينشتاين في عبارته الشهيرة بأنه لا حدود للغباء البشري! لي ولكم طرح جميع الأسئلة العالقة في المخيلة، ربما أكثرها إلحاحا ما يتعلق بماهية الغباء البشري هل يولد فينا أم نكتسبه عبر الوقت؟ هل يتعلق الأمر بعوامل وراثية، أو بالتعليم والثقافة وفق ما تثبته أو تنفيه ملايين من الأبحاث والدراسات التي لطالما ربطت الذكاء بالعوامل البيئية؟ هل يُصنع فعلا الغباء كما يُصنع الذكاء؟ وهل يستوي الأغبياء حول العالم؟
وضع مجموعة من العلماء خمسة قرود في قفص واحد، وفي وسط القفص يوجد سلم وفي أعلى السلم هناك بعض الموز. في كل مرة يصعد أحد القرود لأخذ الموز، حينها يرش العلماء باقي القرود بالماء البارد. بعد فترة بسيطة أصبح كل قرد يصعد لأخذ الموز، يقوم الباقون بمنعه وضربه حتى لا يتم رشهم بالماء البارد. بعد مدة من الوقت لم يجرؤ أي قرد على صعود السلم لأخذ الموز على الرغم من كل الإغراءات وذلك خوفا من الضرب.
بعدها قرر العلماء أن يقوموا بتبديل أحد القرود الخمسة ويضعوا مكانه قردا جديدا. فأول شيء يقوم به القرد الجديد أنه يصعد السلم ليأخذ الموز، ولكن فور ذلك يضربه الأربعة الباقون ويجبرونه على النزول، بعد عدة مرات من الضرب يفهم القرد الجديد بأن عليه ألا يصعد السلم مع أنه لا يدري ما السبب. قام العلماء أيضا بتبديل أحد القرود القدامى بقرد جديد، وحل به ما حل بالقرد البديل الأول حتى أن القرد البديل الأول شارك زملاءه بالضرب وهو لا يدري لماذا يضرب. وهكذا حتى تم تبديل جميع القرود الخمسة الأوائل بقرود جديدة. حتى صار في القفص خمسة قرود لم يرش عليهم ماء بارد أبدا ومع ذلك يضربون أي قرد تسول له نفسه صعود السلم بدون أن يعرفوا ما السبب.
يُنظر إلى الغباء باعتباره حالة عقلية، لا ينقصها علم أو دراسة وهذا ما يميزها عن الجهل، إلا أن كلا من الجهل والغباء يؤدي إلى سوء التكيف مع الواقع والتصرف في عكس اتجاه المصلحة
لو فرضنا.. وسألنا القرود لماذا يضربون القرد الذي يصعد السلم؟ أكيد سيكون الجواب: لا ندري ولكن وجدنا آباءنا وأجدادنا له ضاربين. إذا “هناك شيئان لا حدود لهما. الكون وغباء الإنسان، مع أني لست متأكدا بخصوص الكون”، هكذا قال آينشتاين.
استدرجتني الحكاية، أعجبتني الحكمة وشدتني في بعض تفاصيلها، فبحثت في بعض مقولات الغباء الأكثر انتشارا حول العالم، وقد تناول أريستوفان مفهوم الغباء ليقول “الشباب يشيخ، الطيش يتم تجاوزه، الجهل يمكن تعليمه، والسكر يمكن أن يصحى، لكن الغباء يستمر للأبد”. ولـ ألبرت أينشتاين المقولة الشهيرة “الفرق بين الغباء والعبقرية هو أن العبقرية لها حدود”، أما فريدريك نيتشه فتحدث عن الغباء قائلا: “الغباء الإنساني يكمن في الخوفِ من التغيير”، وقال نيكولاس غوميز دافيلا: “الذكاء يعزل الأفراد، في حين أن الغباء يجمع الحشود”. وعن الغباء أيضا قرأت “مشكلة العالم أن الأغبياء والمتشددين واثقون بأنفسهم أشد الثقة دائمًا، أما الحكماء فتملؤهم الشكوك” لبرتراند راسل.
ومن المقولات زاد نهمي إلى فهم القضية، بحثت على الإنترنت وانتقيت تعريفا استصغته ولو نسبيا: “يُنظر إلى الغباء باعتباره حالة عقلية، لا ينقصها علم أو دراسة وهذا ما يميزها عن الجهل، إلا أن كلا من الجهل والغباء يؤدي إلى سوء التكيف مع الواقع والتصرف في عكس اتجاه المصلحة وذلك تحت ظروف اختيارية حرة دون قسر أو إجبار، فيفقد الإنسان التأقلم مع المعطيات الجديدة وبالتالي تصدر أفعاله منافية للمنطق وللمصلحة”.
استمرت رحلة بحثي في المفهموم الجدلي منذ عصور، عن الغباء أتحدث وعن مفاهيمه وتجلياته أبحث، وفي شوارع وأزقة الإنترنت أتجول من محرك بحث لآخر. اشتركت جميعها وبرغبة جامحة أن تصحبني في رحلة جديدة أصحبكم بدوري لاكتشاف معالمها! حدثتني المواقع عن كاتب شهير وكتاب صغير عظيم في محتواه. اخترت خوض المغامرة لا أعشق اكتشاف المجهول لكن الفضول سيد القرار، فلنخض المغامرة معاً!
فمن من هنا تبدأ الحكاية.. في خمسينيات القرن الماضي كتب أستاذ التاريخ الاقتصادي في جامعة كاليفورنيا، بيركلي Carlo M. Cipolla كارلو م. سيپولا وهو إيطالي الأصل، عن القوانين الأساسية للغباء البشري ضمن مقالة تحليلية هامة بعنوان The Basic Laws of Human Stupidity — وفي العام 1976 قام سيبولا بتحويل مقالته عن الغباء البشري إلى كتاب تحت نفس العنوان The Basic Laws of Human Stupidity ليتناول فيه تعريف الأغبياء والغباء البشري “Human Stupidity”! وليُحدد بدقة القوانين الأساسية المُلخصة للغباء البشرى وقد عرّفه على أنّه أكبر تهديد وجودي للبشرية.
صراحة زادت حيرتني وتوالت الأسئلة في مخيلتي.. ما الذي يعنيه سيبولا بالغباء البشري ومن يقصد بذلك؟ هل تحدث عن شعوبنا العربية ونحن لا ندرك؟ كيف لنا أن نتجلى معاني الغباء البشري؟ هل يهددنا بالفعل؟ هل ما يُميِّزُ الدول المتطوِّرة عن الدول المتخلِّفة هو قلّة نسبة الأغبياء؟ متى تزيد ومتى تقل نسبة الأغبياء وما هو تاثير ذلك على المجتمعات؟
يضع الباحث كارلو سيبولا في كتابه القوانين الجوهرية للغباء البشري، يضع الإنسان في أربع شرائح. فهو مغفل (بائس) أو قرصان (لص) أو ذكي أو غبي
يضع الباحث كارلو سيبولا في كتابه القوانين الجوهرية للغباء البشري، يضع الإنسان في أربع شرائح. فهو مغفل (بائس) أو قرصان (لص) أو ذكي أو غبي
اعتبر العديد من الأشخاص الذين قرؤوا هذا الكتاب أنه ممتع إلى حد كبير ربما أيضا مسلي وسلس من حيث التناول والطرح، يضحكك في البداية ليبكيك أخيرا “فمن يضحك كثيرا يبكي أخيرا”، حتما هي نتاج كتاب سيبولا الذي تحدث عن سمات الأغبياء واصفا إياهم بأنهم كُثر، وغير عقلانيين، ويتسببون في خلق المشاكل للآخرين دون فائدة واضحة لأنفسهم، مما يقلل من رفاهية المجتمع ككل.
وفي طريقة تجنب عبئهم السيء على المجتمع اقترح سيبولا بذل جهد أكبر من جانب غير الأغبياء لتعويض الخسائر التي تسبب الأغبياء في حدوثها، وإذا ثبت أنّه من المستحيل إنقاذ أنفسنا من الغباء، اقترح سيبولا أن ننتقم على الأقل من خلال الضحك على واحدة من أقوى قوى الظلام التي تعرقل النمو البشري، وتقلل مستوى السعادة والرفاهية في المجتمع.
فالإنسان “حيوان اجتماعي” وفق تعريف سيبولا، يعيش الإنسان إذا متفاعلاً مع الآخرين في شبكة علاقات دائمة، يُؤثر فيهم ويتأثر بهم. يُؤدّي ذلك إلى منافع أو خسائر اقتصادية أو نفسية، إلى كسبٍ أو ضياعٍ للطاقة أو الوقت. وهنا تحديدا يضع سيبولا في كتابه القوانين الجوهرية للغباء البشري، يضع الإنسان في أربع شرائح. فهو مغفل (بائس) أو قرصان (لص) أو ذكي أو غبي:
– إذا قاد تأثيرك على الآخر إلى منفعتهِ وإلى خسارتِكَ في نفس الوقت فأنت مغفل أو بائس.
– إذا قاد تأثيرك على الآخر إلى منفعتك وخسارته فأنت قرصان أو لص.
– إذا قاد تأثيرك على الآخر إلى منفعتكما معاً فأنت ذكي.
– وإذا قاد تأثيرك على الآخر إلى خسارتكما معاً فأنت غبي.
– وتصبح ذكيا يميل إلى القرصنة إذا اقتربت كثيراً من مربع القراصنة
– أو تصبح قرصانا يميل إلى الغباء، أوقرصانا «نظيفا»: أي مقدار كسبك من تفاعلك مع الآخر يُساوي تماماً مقدار خسارته)، وهكذا دواليك.
وفي هذا السياق، يهتمّ كتاب سيبولا بالشريحة أو المجموعة الرابعة بالأساس، ألا وهي شريحة الأغبياء! يضع الكاتب سيبولا خمسة قوانين جوهريّة تُحدِّدُ طبيعة هذه الشريحة وتُجلي خطورتَها على المجتمعات كونها أمّ كلِّ بلية بشرية.