سالي جابر
الفنان الهولندي فان جوخ صاحب أشهر اللوحات؛ لوحة دكتور جاشية، لوحة الكهف.
قام بقطع أذنه اليسرى بشفرة، وبعدها بعام ونصف أطلق على نفسه الرصاص وهو يرسم لوحة من لوحاته، ويُقال أنه كان مصابًا بأحد الأمراض العقلية، وظل هذا لغزًا محيرًا للجميع…لماذا قام بقطع أذنه؟
وكان له دورًا بالغًا في الفن التشكيلي، وكتب رسالته الأخيرة إلى أخيه ثيو، البعض يقول أنه رسالة فان جوخ، والآخر يقول أنها على لسانه، لكنها بالطبع رسالة رائعة بديعة تحمل العديد من المعاني الكتلونية بخيرات الأمل، والرغبة في عدم البقاء، ورفض الجسد ورفض صورته عن ذاته، ولهذا فإن من يقرأ تلك الرسالة يعلم أنها أخر ما بخطه كاتبها على صفحته البيضاء، وأنها رسالة انتحار. والتي يقول فيها…
عزيزي ثيو.. إلى أين تمضي الحياة بي؟ ما الذى يصنعه العقل بنا؟ إنه يفقد الأشياء بهجتها ويقودنا نحو الكآبة، إنني أتعفن مللا لولا ريشتي وألواني هذه، أعيد بها خلق الأشياء من جديد، كل الأشياء تغدو باردة وباهتة بعدما يطؤها الزمن، ماذا أصنع؟ أريد أن أبتكر خطوطا وألوانا جديدة، غير تلك التى يتعثر بصرنا بها كل يوم.
كل الألوان القديمة لها بريق حزين في قلبي، هل هى كذلك فى الطبيعة أم أن عيني مريضتان؟ ها أنا أعيد رسمها كما أقدح النار الكامنة فيها.
فى قلب المأساة ثمة خطوط من البهجة أريد لألواني أن تظهرها، فى حقول “الغربان” وسنابل القمح بأعناقها الملوية. وحتى “حذاء الفلاح” الذى يرشح بؤسا ثمة فرح ما أريد أن أقبض عليه بواسطة اللون والحركة… للأشياء القبيحة خصوصية فنية قد لا نجدها فى الأشياء الجميلة وعين الفنان لا تخطيء ذلك.
اليوم رسمت صورتي الشخصية ففي كل صباح، عندما أنظر إلى المرآة أقول لنفسي: أيها الوجه المكرر، يا وجه فانسنت القبيح، لماذا لا تتجدد؟
أبصق فى المرآة وأخرج… واليوم قمت بتشكيل وجهي من جديد، لا كما أرادته الطبيعة، بل كما أريده أن يكون..
عينان ذئبيتان بلا قرار. وجه أخضر ولحية كألسنة النار. كانت الأذن فى اللوحة ناشزة لا حاجة بي إليها. أمسكت الريشة، أقصد موس الحلاقة وأزلتها.. يظهر أن الأمر اختلط علي، بين رأسي خارج اللوحة وداخلها… حسنا ماذا سأفعل بتلك الكتلة اللحمية؟
أرسلتها إلى المرأة التى لم تعرف قيمتىي وظننت أني أحبها.. لا بأس فلتجتمع الزوائد مع بعضها.. إليكِ أذني أيتها المرأة الثرثارة، تحدثى إليها… الآن أستطيع أن أسمع وأرى بأصابعي. بل إن إصبعي السادس “الريشة” لتستطيع أكثر من ذلك: إنها ترقص وتثب وتداعب بشرة اللوحة…
أجلس متأملاً : لقد شاخ العالم وكثرت تجاعيده وبدأ وجه اللوحة يسترخي أكثر… آه يا إلهي ماذا باستطاعتي أن أفعل قبل أن يهبط الليل فوق برج الروح؟ الفرشاة. الألوان. و… بسرعة أتداركه: ضربات مستقيمة وقصيرة، حادة ورشيقة… ألوانى واضحة وبدائية، أصفر،أزرق، أحمر.. أريد أن أعيد الأشياء إلى عفويتها كما لو أن العالم قد خرج تواً من بيضته الكونية الأولى.
مازلت أذكر: كان الوقت غسقا أو ما بعد الغسق وقبل الفجر. اللون الليلكى (يعبر عن الليل ) يبلل خط الأفق… آه من رعشة الليلكي. عندما كنا نخرج إلى البستان لنسرق التوت البري. كنت مستقرًا فى جوف الشجرة أراقب دودة خضراء وصفراء بينما “أورسولا” الأكثر شقاوة تقفز بابتهاج بين الأغصان وفجأة اختل توازنها وهوت. ارتعش صدري قبل أن تتعلق بعنقي مستنجدة. ضممتها إلىً وهي تتنفس مثل ظبي مذعورًا… ولما تناءت عني كانت حبة توت قد تركت رحيقها الليلكي على بياض قميصي.. منذ ذلك اليوم، عندما كنت فى الثانية عشرة وأنا أحس رحيقها الليلكي على بياض قميصي.. منذ ذلك اليوم، عندما كنت فى الثانية عشرة وأنا أحس بأن سعادة ستغمرني لو أن ثقبًا ليلكيًا انفتح فى صدري ليتدفق البياض… يا لرعشة الليلكي…
الفكرة تلح علىً كثيرًا فهل أستطيع ألا أفعل؟ كامن فى زهرة عباد الشمس، أيها اللون الأصفر يا أنا. أمتص من شعاع هذا الكوكب البهيج. أحدق وأحدق فى عين الشمس حيث روح الكون حتى تحرقني عيناي.
شيئان يحركان روحي: التحديق بالشمس، وفى الموت.. أريد أن أسافر فى النجوم وهذا البائس جسدي يعيقني! متى سنمضي، نحن أبناء الأرض، حاملين مناديلنا المدماة..ولكن إلى أين؟.. إلى الحلم طبعًا.
أمس رسمت زهورًا بلون الطين بعدما زرعت نفسي فى التراب، وكانت السنابل خضراء وصفراء تنمو على مساحة رأسي وغربان الذاكرة تطير بلا هواء. سنابل قمح وغربان. غربان وقمح… الغربان تنقر فى دماغي. غاق… غاق.. كل شيء حلم. هباء أحلام، وريشة التراب تخدعنا فى كل حين.. قريبًا سأعيد أمانة التراب، وأطلق العصفور من صدري نحو بلاد الشمس.. آه أيتها السنونو سأفتح لك القفص بهذا المسدس :
القرمزى يسيل “دم أم النار”؟
غليونى يشتعل: الأسود والأبيض يلونان الحياة بالرمادي. للرمادي احتمالات لا تنتهي: رمادي أحمر، رمادي أزرق، رمادي أخضر. التبغ يحترق والحياة تنسرب. للرماد طعم مر بالعادة نألفه، ثم ندمنه، كالحياة تماماً: كلما تقدم العمر بنا غدونا أكثر تعلقا بها… لأجل ذلك أغادرها فى أوج اشتعالي.. ولكن لماذا؟! إنه الإخفاق مرة أخرى. لن ينتهى البؤس أبداً…
وداعاً يا ثيو، “سأغادر نحو الربيع”.