بقلم/ مودَّة ناصر
أكبُر،
أبي وأمي يكبران أيضًا،الجملتانِ تسيران حذاء بعضهما لكن لا أراهما معًا،
لطالما أغواني الكبر وكنت أشتهيه، والآن أتمسّحُ في جناح طفولتي. أخشى أن أسأل أبي وأمي عن عمريّهما، ورغم أني أعلم سنة ميلاديهما إلا أنني أتعمدُ ألا أطرح الفارق لأدرك العمر. حينما تقول أمي عمرها بتلقائيةٍ يقتضيها الحديث يجتاحني الغضب، أغضبُ عليها مستنكرةً وتضحك، لا أدرك تحديدًا لِمَ أغضب؟، وأخافُ البحث عن جواب. أمي في عيني صديقتي التي أنجبتني ولم تتجاوز ثلاثة عقودٍ من عمرها.
وأبي، كبيرٌ في عيني دائمًا، هائلٌ كجبلٍ أرمي عليه حمولتي، ومهيبٌ كحائطٍ أستند عليه دائمًا،
رأسي يستند، جسدي يستند.
لا أنسى حينما راعتني أولُ آثارِ الشيبِ التي خطّت شعره الجميل، -كنت صغيرةً حينها- ذهبتُ لأمي أخبرها بعجبٍ يكتم حزنه، طمأنتني أنه أمرٌ لا يرتبطُ بالكبرِ وإنما بتركيزِ صبغةٍ بالجسد ليس إلا. كلما أتذكرُ هذا الفعلُ الطفولي أتبيّنُ أحيانًا أنني كنتُ أشي الأيام لأمي، أفتنُ عن آثارها المروعة للصغيرين دائمًا..
وأبي رجلٌ لا يُعقلُ لي أن يغدو كبيرًا بحق،
هذا الكبر الذي لا أحبّ،
وأعدُّ الكِبرَ أنواعًا وأختارُ منه ما يناسبني،
يناسبُ التي حينما بدأت تسيرُ نحو الكبرِ عادت للوراءِ تحتضنُ الطفولة.
أكبرُ،
وأشعرُ أنّي لم أقضي مع أمي وأبي من الوقت ما يكفيني، وأني جائعةٌ إليهم دائمًا، آخذُ منهم وأضع في قلبي، يتسع الأخيرُ ويقول: هل من مزيد؟
كنبعِ ماءٍ رقراقٍ هما، يزيدهُ العمر عمقًا ولا يجفّ،
وأشربُ لأرتوي،
أشربُ ولا أرتوي،..
ولا أسأل عن عمق النبع، لا يهمني. أكذب، يهمني دائمًا، لكن أطرد الفكرة.
أشربُ من الماءٍ وأنسى أن أخبره أنه أجمل ما خلق الله، لذيذٌ وفيه الحياة، شفافٌ وأبيض، طاهرٌ ويحبّ دائمًا.
يرى الماء الطريقةَ التي أنظرُ بها إليه، العينُ اللامعةُ والقلب الهانيء، يعلمون أنّي أحبهم، يقولها قلبي دائمًا، وأشعرُ بواجبٍ يُمليه الحبّ أن أنطقها دائمًا. وكأنني ألبسُ ثوب الأمومة ها هنا، وبدلاً من أطرح سؤالاً وأعيده مرارًا كأمي؛ -لتتأكد أننا حقًا لا نريد عشاء-، أردد أني أحبهم دائمًا، وأخافُ أن يمضي العمرُ ولا أخبرهم هذا بشكلٍ يرضيني، يرضي نصيب الحبِّ في قلبي.
أكبرُ،
وأحبُّ أن أكبرَ أحيانًا،
وأمقت أن يكبر أبي وأمي دائمًا.
تضفي الحياةُ على صورنا ملامحها الجديدة، والعتيقة،
في قلبي حاجةٌ، وفي عيني خَلل..
فأرى أجزاء الصورة بوضوحٍ إلا الجزء الذي يضفي الكبر أثره عليهم، لا أراه.
وإن كان؛
فرؤيا مضببة، ولا أحبُّ النظر إليها أبدًا.