تدوينة على هامش الذكرى

بقلم: محمود أمين
لم يكن الفيس بوك يومًا صفحة تعبر عن يومياتي الخاصة، ولكن مررت في يوم بموقف أثلج صدري فأحببت أن أشارك أصحابي هذا اليوم، وأسجله في الذاكرة الإلكترونية؛ والتدوين يوقظ المشاعر بحرارتها الكامنة في نفس وقت حدوثها، فكم من مشاعر ماتت لأنها لم تدون، والمحظوظ من جعل في جعبته مفكرة وقلمًا يستعين بهما في إحياء ذكرى مضت أو موقف ما زال يحدث وأثره باقيًا بعض الوقت؛ فالكتابة تعطي الموقف حياة أبدية حتى بعد موت أصحابها، ولم نكن لنعرف مكارم الأخلاق أو محاسن التصرفات إلا بعد مطالعة أخبار أجدادنا، وقد ماتت الحكاية بميلاد الحياة الإلكترونية، فلا أحد يحكي ولا أحد يتقن الحكاية، وبقيت الكتابة والتدوين متكأً يتكئ عليه كل صاحب شوق ولهفة لتخليد حكايته.
في يوم ألمت بي ضائقة أبعدت عني أسباب الفرح والسرور، وتناولني التفكير كما يتناول أصحاب التقاعد بعد حياة حافلة بالصخب والروتين اليومي إلى حياة هادئة على نغم الملل؛ ومن بعد الفكر أرق الأيام والأشهر، ولولا رحمة الله لتسور علي المرض من كل مكان!
كنت وأنا على تلكم الحالة أقلب النظر في كتاب من الكتب لا أتذكر اسمه وأنا جالس على مكتبي، وقد أطرقت وسبح الخيال في عالم غير العالم كأني أزور رسومًا وأطلالًا دوارس أبكيها وتبكيني، وذهب النظر تبعًا للخاطر، فمن رآني رأى رجلًا يقرأ، ولكني لم أقلب الصفحة مذ فتحت الكتاب واتخذت هذه الجلسة المتأملة فترة، وكيف أقرأ والبال مشغول بمثل تلك الرسوم البالية والماضي الباهت، وفي القلب مجال فارغ لكل هوى ونزعة من هذه الدنيا المتقلبة.
هدوء استنقذني منه صوت أبي: كيف حالك؟ قلت: أنا بخير. قال: لست بخير يا ولدي! وعقّب قائلًا: في يوم كذا مرت بي أزمة قانونية فوكلت محاميًا يتولى قصتها، وكنت قبلها في أشد الضيق والتعب ولم تذق عيني بردة النوم، وكل همي أن أخرج منها كفافًا، ومن وقت أن وكلت المحامي وجتني أنام قرير العين وأجلس هادئ البال، وكلما ذهب عقلي ليفكر في الأمر صدعته فكرة (لقد وكلتُ محاميًا ليكفيني شر الفكر وتنغيصه). وسكت أبي ولسكوته معنًى لا يقل عن كلامه الذي بدا موجهًا ومفهومًا، والمرء يأتي عليه الوقت يحتاج فيه إلى كلمة تعدل من ميلته أو كلمة تربأ صدعه أو… وقال بعد سكوته: أنا وكلت محاميًا وقد كفاني، فما بالك لو وكلتَ الله أمرك؟ وذهب وتركني خلفه كالفسيلة الصادية إلى ماء المطر بعد انقطاع.
أثر الكلمة لو جاءت في وقتها فهي تعادل في أثرها ألف مقال وألف موقف من المواقف الداعمة، ومن مر مثلي بهذا فهو أكثر الناس دراية لمعنى هذا الكلام، والحياة قاسية في بعض المواقف فهي لا تتعامل بعقلها أو بعاطفة أو بأخلاق في غريزتها، ولكنها تتعامل بهندسة تسير كالأفلاك وقد غابت عني تلك المعاني زمانًا، وأنا أحسبها رفيقة لينة على الهين اللين وقاسية عتية على القاسية قلوبهم، ولكنها لا تختلف في مسيرها بين لينٍ وقاسٍ؛ ولكن نختلف نحن في فن التعامل معها وقوة تأثرنا بها وقبولنا لها.
قوة النفسية وصلابة الفكر في مقابلة الحياة لها المقام الأول في مدى قوة التحمل، وقد يغيب عن الخاطر كل معاني القوة والدفاع عن النفس تجاه مخاطر الحياة، ولا ينقذنا منها إلا الله العليم، فقد كتب الله على عباده الصالحين لطفًا مع كل نازلة؛ واللطف يأتي على أي صورة قد لا تتصورها؛ كيدٍ تحنو علينا في وقت تخلف عنا فيه الكثير منهم، دعوة من قلب نقي في ظلمات ليل لا يعلمها إلا خالقنا، دعم صديق لا نتصور مرور الضائقة إلا بدعمه، عقل واعٍ يبدل التصورات الذهنية السلبية، والتعبير في هذا الجانب يطول وسأترك لخيال القارئ العزيز مجالًا ورقعة بيضاء ليكتب معي لطائف الدعم على اختلاف ألوانها.

دوينة على هامش الذكرى
Comments (0)
Add Comment