سهام سمير
هل تكفي الصورة الحلوة لصنع دراما جيدة؟
في التسعينات عندما أذيع مسلسل يوميات ونيس كان حدثا، شخصيا لم أعرف أسرة لم تتابعه، وتتعلق بأحداثه، خاصة الأجزاء الأولى.
توحدنا في المسلسل كأبناء مع أبناء ونيس ومايسة، كما أزعم أن أباءنا في ذاك الوقت رأوا أنفسهم في مكان ونيس ومايسة.
هذه الفترة تميزت بإرساء قناعات ومبادىء، تربينا عليها، كالتعليم كقيمة ومبدأ ثابت لا يمكن استبداله بشيء أخر.
ما يهمنا هنا أن المشكلات التي ناقشها المسلسل، تنوعت بين مشكلات متعلقة بالمشاعر كالغيرة والفقد والحزن والغرور الطمع وغيرها من المشاعر التي عشناها مع الأبطال، ووجدنا أنفسنا نقع في نفس الأخطاء، والجملة العبقرية لمقدمة المسلسل:” ونحن نربي أوبناءنا اكتشفنا أننا نربي أنفسنا معهم” أو كما نقول دوما باللغة العامية”ولادنا هما اللى بيربونا”
بعض الحلقات حملت أفكارا غريبة وردت على مجتمعنا، ثقافة استهلاكية في معظمها، مثل انتشار محلات البيتزا، وتهافت المراهقين على تناولها، وحين أصر الابن الأكبر على الذهاب والأكل هناك وذهبت العائلة بأكملها فدفعت مبلغا ضخما أثر على ميزانية الأسرة، فما كان من ونيس سوى أنه صمم أن يصنعها في البيت، وبالطبع لم تنفعه مهاراته في الطهو أن يصنع بيتزا مرضية لذوق هذا الجيل، رغم أنها على حد قوله: عجينة وعليها بواقي أكل”.
وهكذا وجد كل منا مشكلة ما أو فكرة تراوده تناقش في المسلسل، الذي امتد لأجزاء طويلة، فقدنا شغفنا به حين تحول من مناقشة أمور عائلية نشعر بقربها منا، لتمجيد بطل أوحد وإظهاره بمثالية لا توجد في الواقع، فجاءت الأجزاء الأخيرة منه تحمل فكرا أحاديا قائما على ما كتبه بطل العمل فأصبح أشبه بسيرة ذاتية لا تأتي على ذكر عيوب أوأخطاء البطل.
ما فات كان يوميات لأب في التسعينات، حيث الحياة البسيطة، وحيث كان ما يجمعنا أكبر بكثير مما نختلف عليه، البيوت مؤثثة بأثاث متقارب، النوادي يرتادها الطبقة المتوسطة والفسح والأجازات والسفر للمصيف له مذاق بطعم البساطة والسهولة، وليس للتباهي ولتقسيم الساحل الشمالي إلى نقاط، وأماكن ممنوع دخولها على ناس ويسمح بدخولها لأخرين.
حين حدث مع يوميات ونيس أن وقعت العمارة التي يقطنونها، نتيجة لطمع جارهم خليل في بناء أدوار زيادة، تجمعت الأسرة في منزل جدهم في الحارة، وانتقل الكادر ليتناول حياة الحارة بأدوات أٌقل وإمكانات زهيدة ولكن النقلة كانت منطقية ومقبولة.
مايسة تعمل كما يعمل ونيس، وعندما فقد عمله استمرت في العمل، محاسبة في أحد البنوك، والبنك الذي تعمل فيه بدا مألوفا لنا بديكور المكتب وزملاء العمل.
مؤخرا أذيع إعلان مسلسل جديد بعنوان” أجازة مفتوحة”، لا أدري لماذا شاهدت حلقة منه عدت ليوميات ونيس وشعرت برابط بين العملين، وكأنه يناقش بعض مشكلات العمل الأول لكن بنكهة التكنولوجيا الواردة علينا.
فإن كان ونيس ركز على مشاعر، أتى المسلسل هنا ببعض المشاعر، لكن ليس بكثافة ونيس، فالزمن تطور، ومتطلبات الإنتاج تقتضي أن نسرع ونقحم مزيد من الإعلانات في صلب الحلقة، تفقدنا نحن الجيل الذي اعتاد الفرجة بمزاج على الحلقات، ومناقشتها بعمق.
الصورة في المسلسل حلوة مبهجة، تحمل عنوان المدارس الدولية والكمبوندات والسيارات الفارهة والفنادق السبع نجوم.
الأب هنا يعمل في أحد الفنادق الكبرى الذي يضطر صاحبه لإغلاقة لمشاكل مادية، ويجد الأب نفسه عائدا للبيت، وتكمل زوجته عملها الذي يتصادف أنه في أحد البنوك مثل مايسة، لكن بنك الألفية الثالثة غير بنك أوائل التسعينات، نجد اليونيفورم الذي يلتزم به الموظفون إحدى سمات العمل في البنوك الأن، تفصيلة حلوة للمخرج.
الأب الذي يقوم بدوره شريف منير، اضطر لتقليل مصاريفهم وترشيدها، فانتقل بأسرته لمنزل أقل رفاهية، كان تعليق أولادي: “بيت صغير يا ولاد!
لم يفرق البيت الصغير عن الكبير في الكمبوند غير بضع أمتار بين المنزلين.
لم نشعر بمعاناة الأب العاطل عن العمل، فأصبح يبحث عن أي فرصة لإيجاد دخل، يساعد به، فمرة يوصل أولاد سكان الكمبوند مع أولاده للمدرسة، ما جعل أولاده يتعرضون للسخرية والتنمر من أصحابهم.
يحل مشاكل نساء الكمبوند، كما كان يفعل ونيس بحل مشكلات من حوله، يعتبر نفسه مسئول عن أمه المسنة وأختيه، رغم أن الأختين متزوجتين لكن واحدة منهن تعانى من اعتمادية زوجها وخياناته لها والأخرى تعاني من غيرة زوجها الذي يرتبط معهم بصلة قرابة فهو ابن عمها الصعيدي.
ما يجعل المشاهد يرتبط بعمل، عناصر عدة نادرا ما اجتمعت في عمل، لكن إن توافر أحدها نفرح ونتشبث بالعنصر الوحيد، أعتقد أن الصورة الحلوة كانت سبب تشبثنا ومتابعاتنا له، الطاقم الذي من الواضح يعمل بروح صداقة تحدث من وراء الكواليس.
كالمعتاد في الدراما شخصية البطل مرسومة بحرفية، أعتقد أن هذا يعد من أدوار شريف منير المناسبة له بالضبط، فهو من الأجيال التي عاصرت عمالقة وكان بجوارهم لا تظهر كل مواهبه، وحين ظهر جيل الشباب كان هو على أعتاب النضج وأدوار الأب لكنه لوسامته وقرب ملامحه من ملامح الشباب وتمتعه بروح الشباب، استطاع أن يكون في مصافهم لفترة، لكننا كنا نقبل هذا على الشاشة ونحن نعرف أن عمره يفوق أعمارهم.
في هذا المسلسل الدور مناسب، لأب لمراهقين، ومشاكل المراهقة في العصر الحالي تختلف وأصبحت أشد تعقيدا، فابنه يتورط في قضية سرقة كارت فيزا، وابنته ينتشر لها فيديو على التيك توك.
حتى حين ناقش المسلسل فكرة منتصف العمر وظهور حبيبة، كما كان يحدث في يوميات ونيس، كانت الفكرة مسلوقة وطهيت على عجل، وبالطبع البطل هنا كما هناك هو الذي صالح الطرفين المتخاصمين.
أحيانا كنت أرى مبالغة في مشاهد بعينها، فالأخت الصغرى والمتزوجة من ابن عمهم، الصعيدي، والذي يصر على التحدث اللهجة الصعيدية رغم أنه ولد وتربى وتعلم ويعمل في القاهرة لكن ليقدموا لنا نموذج الصعيدي الذي لا يتفاهم ولا يتسامح مع الأخطاء.
هذه الشخصية التي حملت متناقضات، بين شهامته وجدعنته في كل موقف تتعرض له عائلته، وبين أن يصر على أن تجري زوجته وابنة عمه تحليل دي إن إيه DNA لأنه يشك في نسب الطفل إليه.
زواج سميحة أيوب مثلا من سامي مغاوري، وترحيب حار من أبنائها الثلاثة، ناهيك عن فارق عمر كبير لم يأتوا على ذكره جعلنا نفصل ولا نشعر بألفة مع فكرة ارتباط الشخصيتين.
المشاكل التي تم افتعالها، بلا مسبب درامي قوي بين البطل والبطلة وإصرارها على الطلاق ثم عودتهم بعد لقاء قصير مع السيدة التي كانت سببا في خراب البيت.
ومع ذلك استمر المسلسل لأربعين حلقة، تخللتها ألاف الإعلانات، وبعدما كنا نتناول وجبات دسمة نأخذ سنوات حتى ننساها أو نتذكرها من حين لأخر، أصبح المسلسل كالعبوات المحفوظة من الطعام أو فكرة الأكل التيك أواي يسد جوع مؤقت لكنه لا يجعلك تشعر بالشبع والإمتلاء.
لكني أرى أن طبيعة الوقت الحالي، واختزال كثير من كلماتنا مع أبناءنا أو اختزالهم هم لها، سببا رئيسيا في اختلاف تناول العمل ودقة ما يناقشه واحترام عقلية المشاهد الذي يجد نفسه يسأل: عملوا ايه النهاردة؟
ما يحسب للمسلسل أنه أتى مختلفا عن الحلقات المتصلة المنفصلة التي انتشرت مؤخرا، وغالبا تركز على مناقشة مشكلات المرأة وكيف أنها تتجاوزها وتحقق ذاتها.
كما أنه مختلف عن انتشار دراما الرعب والتشويق والإثارة، فناقش مشاكل اجتماعية أسرية وإن كان بشكل خفيف، لكني أعتبره خطوة لإعادة إنتاج مثل تلك المسلسلات العائلية والتي نجتمع لمشاهدتها في جلسة أسرية حميمة.