حكايات التاء المربوطة

بقلم رشا فوزي

غفران
استيقظ على برودة جامحة تخترق جسده حتى النخاع؛ ليجد نفسه ممددا على طاولة معدنية في وسط غرفة واسعة خلت من الأثاث، الغرفة ذات جدران بيضاء متسخة ويتدلى من سقفها خطاطيف مما يعلق عليها اللحوم في المجازر والثلاجات!، كانت تكتنفها برودة لا يعرف مصدرها؛ سرت بسببها القشعريرة في جسده.
حاول النهوض، لكنه لم يستطع على الرغم من عدم وجود ما يقيده بالطاولة؛ لقد كان ملتصقا بها، نعم ملتصقا بها حرفيا!
حاول أن يفتح فمه ليصرخ؛ عسى أن يهب أحدهم لمساعدته، إلا أنه لم يستطع هذا أيضا؛ فقد كانت شفتاه هى الأخرى ملتصقتان ببعضهما تمام الالتصاق!
اجتاحه هلع، جعله يهز جسده بجنون، علّه ينفصل عن الطاولة، صاحبه صوته المكتوم، دون جدوى حتى خارت قواه.
في هذه اللحظة ترامت إلى مسامعه وقع خطوات تسير على مهل، حتى أصبحت على مقربة منه.
من صوت الكعب العالي أدرك أنها لسيدة،
وعندما أصبحت في مرمى بصره أخذ يرقبها بتوتر بالغ،
كانت تقترب منه في ثقة، وهدوء أقرب للبرود، غير عابئة بنظراته المرتعبة المصوّبة إليها، مرتدية زيا جلديا أسود لامع يضم جسدها بحزم يفضح تناسقه، بينما شعرها معقوص بصرامة للخلف على هيئة ذيل حصان، وكأنها خارجة للتو من فيلم رعب يلعب هو فيه دور الضحية! .
وقد كان توتره يزداد مع كل خطوة تخطوها؛ فتقرّيها منه وهو على هذه الحال؛ لا حول له ولا قوة، إلا أن عينيه اتسعت من الدهشة عندما اتضحت ملامحها وأدرْك أنها.. زوجته!
استقبلت دهشته بابتسامة سخرية، ثم نظرت إلى جسده المسجى أمامها على الطاولة بإمعان، لترفع يدها فيلمع شيئا معدنيا صغيرا تحمله بين أصابعها لا يزيد طوله عن طول إصبع السبابة لديها؛ إلا أن لمعانه ينبأ عن مدى حدته.
حملق فيه لبرهة حتى أدرك أنه مشرط؛ فهوى قلبه عند قدميه، وجحظت عيناه، وهو يراها تنتقي بأي منطقة تبدأ؛ ندت عنه صرخات مكتومة جعلتها تلتفت له، فتلتقي أعينهما في نظرة صامتة استغرقت برهة، أبصر فيها كم هائل من الجفاء والقسوة أصفحتا بهما عيناها بحدّة، وهو ما لم يعهده منها أبدا طيلة حياته معها.
سأل نفسه مندهشا:
“من أين أتت بهما ؟!”
ليمزق شروده صوت ضحكة فجّة أشبه بالصراخ صادرة عنها، أعقبتها تسأل هازئة:
– أحقا لا تعرف من أين جاءت قسوتي؟
ازدرد ريقه ومعها دهشته، من أين علمت بحديث دائر بينه وبين نفسه؟!
– لا يهم كيف علمت!
أجابت بحدة، ثم أكملت بنفس الحدة:
– المهم إجابة سؤالك، وسأجيبك.
أخذت تدور حول الطاولة بعصبية، فيما شرعت تقول:
– مبدئيا من صلفك وغرورك؛ فأنت دائما على صواب وأنا دائما على خطأ، رأيك قانون ورأيي شيء تافه لا يعتد به.
أنهت جملتها وقد هوت بمشرطها على ذراعه الأيمن محدثة قطع غائر به، تدفق منه الدم بغزارة، ونخر الألم أحشائه من شدته. تابعت غير مكترثة لتأوهاته المكتومة :
-استهانتك بذكائي وقدراتي، وانتقادك الدائم لكل أفعالي؛ لتحقق تفوقا وهميا لا يوجد سوى بخيالك المريض؛ فيرضي غرورك ويخفف عنك وطأة شعورك بالنقص!
ومع الكلمة الأخيرة هوت مرة أخرى بمشرطها، هذه المرة على فخذه الأيسر؛ محدثة قطعا أخر لا يقل عن سابقه.
وتوقفت برهة تتأمل جسده المرتعش من الألم، يصاحبه أنينه المكتوم، بتلذذ لم تحاول إخفاءه، ثم تابعت :
– وماذا عن كل تلك التفاصيل الصغيرة التي قد تسعد وقد تتعس أيضا؛ عيد ميلادي، عيد زواجنا، اتصالك عند تأخرك في عملك حتى لا ينتابني القلق،
سؤالك لي عن أحوالي وكيف قضيت يومي أثناء غيابك، ابتسامتك في وجهي عند إقبالك وتوديعك لي عند إدبارك،
كلها أشياء تجاهلتها متعمدا، حتى ..حتى تلك الأشياء التي أحبها أو أكرهها من توافه الأمور، حتى تلك تجاهلتها عن عمد.
خلال حديثها السابق كانت قد غيرت من استراتيجيتها؛ فهي لم تعد تنتظر حتى تنهي حديثها لتسقيه من مشرطها شراب الألم اللاذع، بل كانت مع كل تفصيلة تقولها تقوم بطعنه بمنتهى العنف والقسوة حتى شعر بأن قلبه سيتوقف.
ويبدو أنها أدركت ذلك، ولسبب ما خشيت حدوثه؛ حيث اقتربت مسرعة من صدره تتسمّع نبضاته ثم نظرت لوجهه بمرارة قائلة :
– وقلبك هذا، ووعده لي بالحب والسعادة بعد الزواج، لِما حنّث به؟
أغمض عينيه وهو يستقبل مشرطها يغمد في صدره بلا رحمة،
لتشخص عيناه تجاه سقف الغرفة بينما كان جسده ينتفض كدجاجة
مذبوحة.
وهنا هدأت نبرة صوتها وهي تقول:
-لا تمت؛ لم ننتهي بعد!
كان صوتها كأنما يأتي من مكان بعيد، أو ربما كان هو من يذهب إلى مكان بعيد.
شعر بأنفاسها الحارة تغمر وجهه البارد، وهي تقترب لتنظر في عينيه الشاخصة نحو السقف، لتكن صورة وجهها آخر ما تراه عيناه، وهي تمضي في حديث هادئ :
_ فمازال هناك عقلك الذي صور لك أحقيتك في امتلاكي، استغلالي، واستعبادي بعقد زواج !.
وكانت طعنة مشرطها الأخيرة بين عينيه؛ لينتفض جسده بعدها نفضته الأخيرة أيضا، بينما تحلق روحه إلى عنان السماء مثقلة بتساؤل يبدو أنه سيؤرقها إلى أبد الأبدين:
_ وهل ستمنحني يوما حق الغفران؟!

استيقظ فزعا من نومه، جسده يتصبب عرقا، أنفاسه متلاحقة، وحلقه جافا؛ جعله يتجرع كأس ماء كانت بجواره جرعة واحدة، ثم أسرع إلى المرآة ينظر إلى بدنه غير مصدق إن ما مر به ما هو إلا كابوس مفزع، وتلفتَ حوله ناظرا لأشيائه التي يألفها مؤكدا لنفسه أنه فعلا مجرد كابوس شمله وزوجته،
“لكن أين هي زوجتي؟! ” سأل نفسه،
وهرع يجوب المنزل باحثا عنها، ليجدها في المطبخ تستعد لتقطيع اللحم بسن السكين، استقبلته بابتسامة ودودة وهي تقول:
_ استيقظت أخيرا.
أومأ برأسه إيجابا، وقد تعلقت مقلتاه بنصل السكين في ذهابها وإيابها على المسن، سرت في جسده قشعريرة لم تكن بغريبة عليه؛ جعلته ينقض على يديها ضاما إياهما بقوة بين راحتيه، ساحبا السكين برشاقة من بين أصابعها، بينما يحدثها بصوت مضطرب :
– حبيبتي، ما رأيك بعشاء في الخارج؟.
أجابته باستنكار
– وما المناسبة؟!
– بمناسبة حبي الذي يزيد لكِ يوما بعد يوم.
فغرت فاها وهي تسمع كلماته، وتراه يرفع يدها لشفتيه فيلثم أناملها بعذوبة وتودد، ثم يستطرد في حديث طويل عن رغبته في اصطحابها في إجازة طويلة إلى ذلك المكان الذى طالما أرادت الذهاب إليه، وأنهما يجب عليهما تغيير روتين حياتهما من وقت لآخر، وأنه يتمنى أن تغفر له انشغاله عنها، وأنه سيعوضها عن ذلك كله، وأنه … وأنه..
بينما تغرق هي في هواجسها، وتسأل نفسها والريبة تكاد تفتك بها :
– وأي ذنب اقترفت في حقي هذه المرة؟
لتنتبه على صوته يناديها، فتنظر له بعينين تقدحان شررا، مترددتين بينه وبين السكين الموضوع على طاولة المطبخ

رئيس مجلس إدارة جريدة القاهرية

حكايات_التاء_المربوطة
Comments (0)
Add Comment