بقلم د. محمد بركات
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:
لا زلنا مع القرآن الكريم كتاب الله تعالى الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.
الله تبارك وتعالى قد رسم المنهج وأبان الطريق والمناهج ، فخلق الإنسان وقد كفل له رزقه وأجله وحياته.
فليس أقل علي الإنسان من أن يطيعه ويعبده ويعمل لما فيه رضاه وعفوه .
يقول الله تعالى:
{ أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ }
(سورة الملك ، الآية: 14)
جاء في تفسير الإمام القرطبي رحمه الله:
ألا يعلم من خلق يعني ألا يعلم السر من خلق السر . يقول أنا خلقت السر في القلب أفلا أكون عالما بما في قلوب العباد .
وقال أهل المعاني : إن شئت جعلت ” من ” اسما للخالق جل وعز ; ويكون المعنى : ألا يعلم الخالق خلقه . وإن شئت جعلته اسما للمخلوق ،
، والمعنى : ألا يعلم الله من خلق . ولا بد أن يكون الخالق عالما بما خلقه وما يخلقه .
قال ابن المسيب : بينما رجل واقف بالليل في شجر كثير وقد عصفت الريح فوقع في نفس الرجل : أترى الله يعلم ما يسقط من هذا الورق ؟ فنودي من جانب الغيضة بصوت عظيم : ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير.
وقال الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني : من أسماء صفات الذات ما هو للعلم ; منها ” العليم ” ومعناه تعميم جميع المعلومات . ومنها ” الخبير ” ويختص بأن يعلم ما يكون قبل أن يكون . ومنها ” الحكيم ” ويختص بأن يعلم دقائق الأوصاف . ومنها ” الشهيد ” ويختص بأن يعلم الغائب والحاضر ومعناه أن لا يغيب عنه شيء ،
ومنها الحافظ ويختص بأنه لا ينسى .
ومنها ” المحصي ” ويختص بأنه لا تشغله الكثرة عن العلم ; مثل ضوء النور واشتداد الريح وتساقط الأوراق ; فيعلم عند ذلك أجزاء الحركات في كل ورقة . وكيف لا يعلم وهو الذي يخلق ! وقد قال : ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير .
وجاء في تفسير الإمام الطبري رحمه الله:
يقول تعالى ذكره: (أَلا يَعْلَمُ ) الربّ جلّ ثناؤه (مَنْ خَلَقَ ) من خلقه؟ يقول: كيف يخفي عليه خلقه الذي خلق (وَهُوَ اللَّطِيفُ ) بعباده (الْخَبِيرُ ) بهم وبأعمالهم.
وجاء في تفسير الإمام ابن كثير رحمه الله:
( ألا يعلم من خلق ) ؟ أي : ألا يعلم الخالق ؟ ! وقيل : معناه ألا يعلم الله مخلوقه ؟ والأول أولى ، لقوله : ( وهو اللطيف الخبير )
واعلم أن لطف الله بعباده عجيب حقا..
فمن يقرأ ويتدبر ويحلل في قصة نبي الله يوسف عليه السلام يجد كيف قدر الله له أمورا كثيرة خارجية عادت عاقبتها الحميدة على يوسف وأبيه عليهما السلام وكانت في مبدأها مكروهة ولكن كانت عواقبها أحمدَ العواقب، وفوائدها أجلّ الفوائد ولهذا قال عليه السلام:
«إن ربي لطيف لما يشاء» أي أن هذه الأشياء التي حصلت لطفٌ لطفه الله له فاعترف عليه السلام بهذه النعمة.
وقيل: (من لطف الله لعبده يعقوب أن قرن قدره بلطفه فالقدر فراق ابنه ولطفه المبشرات التي ستحصل ليوسف في المنام).
واعلم أيها المؤمن العاقل أن لطف الله بعبده وله باب واسع، يتفضل الله تعالى بما شاء منه على من يشاء من عباده ممن يعلمه محلا لذلك وأهلا:
نعم ..فمن لطفه بعباده المؤمنين أنه جل وعلا يتولاهم بلطفه فيخرجهم من ظلمات الجهل والكفر والبدع والمعاصي إلى نور العلم والإيمان والطاعة.
ومن لطفه كذلك بهم أنه يقيهم طاعة أنفسهم الأمارة بالسوء فيوفقهم لنهي النفس عن الهوى، ويصرف عنهم السوء والفحشاء مع توافر أسباب الفتنة وجواذب المعاصي والشهوات ؛ فيمنّ عليهم ببرهان لطفه ونور إيمانه فيدعونها مطمئنة لتركها نفوسهم، منشرحة بالبعد عنها صدورهم.
ومن لطفه سبحانه وتعالى بعباده أنه يقدر لهم أرزاقهم بعلمه بمصلحتهم لا بحسب مراداتِهم؛ فقد يريدون شيئا وغيره أصلح ؛ فيقدر لهم الأصلح وأن كرهوه لطفاً بهم، قال تعالى: «الله لطيف بعباده يرزق من يشاء وهو القوي العزيز».
ومن لطفه كذلك جل وعلا بهم: أنه يقدر عليهم أنواعا من المصائب وضروبا من البلايا والمحن سوقاً لهم إلى كمالهم وكمال نعيمهم.
ومن لطفه جل وعلا بعبده أن يقدر له أن يتربى في ولاية أهل الصلاح والعلم والإيمان،وبين أهل الخير ليكتسب من أدبهم وتأديبهم. وأن ينشأ كذلك بين أبوين صالحين، وأقارب أتقياء، وفي مجتمع صالح.
ومن جميل لطفه سبحانه وتعالى بعبده أن يجعل رزقه حلالاً في راحة وقناعة يحصل به المقصود ولايشغله عما خلق له من العبادة والعلم والعمل به، بل يعينه على ذلك.
ومن لطفه بعبده أن يقيض له إخوانا صالحين ورفقاء متقين يعينونه على الخير ويشدون من أزره في سلوكه سبيل الاستقامة والبعد عن سبل الهلاك والانحراف.
ومن لطفه – جل وعلا – بعبده أن يبتـليه ببعض المصائب فيوفـقه للقيام بوظيفة الصبر فيها، فيُـنيله رفيع الدرجات وعالي الرتب.
ومن لطفه سبحانه بعبده أن يكرمه بأن يوجد في قلبه حلاوة روح الرجاء وانتظار الفرج وكشف الضر؛ فيخف ألمه وتنشط نفسه.
وفي ذلك يقول ابن القيم رحمه الله: (فإن انتظاره ومطالعته وترقبه يخفـف حمل المشقة ولاسيما عند قوة الرجاء أوالقطع بالفرج؛ فإنه يجد في حشو البلاء من رَوح الفرج ونسيمه وراحته ما هو من خفي الألطاف، وما هو فرج مُعجل، وبه وبغيره يُعرف معنى اسمه اللطيف).
حقا . كم هو نافع بالعبد أن يعرف معنى هذا الاسم العظيم ودلالته، ليحقـق الإيمان به، ويقوم بما يقتضيه من عبودية لله فيملأ قلبه رجاءً وطمعاً في نيل فضل الله، متحرياً في كل أحواله الفوز بالعواقب الحميدة، واثقاً بربه اللطيف ومولاه الكريم بالنعم السوابغ والعطايا.
ولذلك قالوا لنا قديما .. من يتحرّ الخير يُعطه، ومن يتوقّ الشر يوقه. والفضل بيد الله وحده يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
اللهم والطف بنا فيما جرت به المقادير.