بقلم / حنان فوزي عبد الحافظ
حدث بالفعل. ١ ديسمبر ١٩٥٥
تحركتُ بخطوات مسرعة صوب المحطة، تأخرتُ بمحل الحياكة الذي أعمل به الليلة؛ كانت الزبائن متزاحمة على عكس المتوقع في ليلة باردة كهذه، جل ما أخشاه ألا ألحق بموعد الحافلة!
ارتقيت الدرج الصغير، درت ببصري في المقاعد الخاوية، حمدا لله لن أضطر للوقوف! كلت قدماي ولم تعودا قادرتين على حمل ثُقلي بعد هذا اليوم الشاق!
استرخيت مغمضة العينين في انتظار الوصول لمحطتي، كان الطريق طويلًا، تحملت الحافلة المسكينة أكثر من طاقتها. وبدا واضحا أنه لا مجال للمزيد.
فُتح الباب، ليدلف رجل أبيض، جال بعينيه في المقاعد المكتظة قبل أن يتحرك ليقف أمامي قائلا بغلظه:
– أيتها السيدة السمراء، أنهضي لأجلس، هذا الكرسي لي.
كُنت أعلم أن القانون يعطه هذا الحق! لأي أبيض البشرة أن يأمر الأسمر بالنهوض ليجلس هو، وما علينا نحن سوى الخضوع!
درجة أدني هذا ما نعامل به! الغيظ يتجمع حتى يكاد يقفز من فمي. تطلعت إلي ملامحه الباردة المتعجرفة، حاولت أقناع جسدي بالانصياع لكنه يأبى أن يطيع، عاد ينظر إلى باشمئزاز ونفاذ صبر مكررًا طلبه.
طافت عيناي بملابسه النظيفة وحذاؤه اللامع ؛ لا يبد أنه بذل أي جهد على الأطلاق، ثم يأتي ليطالب قدماي المتقيحتان بالنهوض!
نارٌ ما استعرت بداخلي؛ ظلم بين! هذا مقعدي ولن أتنازل عنه، ولدهشتي قبل دهشته قفزت ال لا إلى شفتي قوية مدوية تصدح بين جدران الحافلة المعدنية.
هل فعلا تردد صداها أم أنها خيالاتي المُرهقة؟!
نظر هو إلى بذهول، غير مصدق لما تفوهت به، نعم لقد قلت لا فهات ما لديك، تعالت الأصوات المستنكرة من كل المقاعد البيضاء:
– ماذا تقول هذه السوداء المأفونة؟
– هل تجرؤ أن تقول لأبيض لا؟
– سيعاقبك القانون يا حمقاء؟
ربما كان العقل أن أنهض، ولكن السهم انطلق ولا عودة لغمده، هذا إجحاف! لي الحق بالمقعد كأي أمريكي آخر؛ لذا كررتها بإصرار أكبر، أججته الشعلة التي نبتت وراحت تتلظى داخلي.
– لا، لن أنهض .
شعرتُ بالحافلة تتوقف، واقترب السائق الساخط يوبخني بغضب على ما أسماه رعونتي قبل أن يعاود مطالبتي بالنهوض.
لم يكن مني سوى أن رفعت له عينين قويتين تشبعتا بالهبوط لأسفل و قررتا ألا تفعلا ثانية، وأعدتها أقوى:
– لا….
تصاعدت النبرات الاحتجاجية مرة أخرى، طالب السائق الجميع بالصمت، ونظر إلي شامتا وهو يقول:
– سنذهب إلى المخفر الآن، و لنرى كيف ستعيدي هذه ال لا مرة أخرى.
لا أنكر خوفي من الشرطة، لكن ما تم قد تم. لقد نطق صوتي و لن أُخرسه ثانية.
سألني ذو الزي الرسمي:
– روزا باركس، هل تنصاعين للقانون وتتركين المقعد لصاحبه؟
لم يكن صاحبه أبدًا، كان المقعد لي وسيظل، لذا لم أزد عن أن كررت:
– لا
تحول وجه الشرطي الأبيض إلى اللون الأحمر قبل أن يهتف:
– ليكن ، غرامة ١٤ دولار.
كان يعرف جيدا ماذا تعني أربعة عشر دولارًا لامرأة مثلي.
لكنها ثمن قليل لكلمة لا، رغم الغرامة، و رغم ما لاقيته اليوم التالي بعملي، مازال للكلمة حلاوة على فمي لم تذب بعد بل يتلمظ للمزيد.
****
بعيدا عن القصة: الموقف حقيقي، اشتعلت بعده الولايات المتحدة الامريكية بالمظاهرات لمدة عام كامل و قاطع الأمريكيون من أصل أفريقي المواصلات العامة كلها. حتى برأت المحكمة روزا باركس و تم الغاء هذا القانون و بعض القوانين الاخرى العنصرية الخاصه بالمواصلات..