من يوميات السيد: نابغ خالد – لقب فارغ «5»

بقلم محمود أمين
منظر الغرفة يوحي بالجلال لأنها مرتبة بدأ من سجادة الأرض النظيفة التي تناسقت مع فرش الغرفة فترى جمال كل منهما مكتسب من الآخر، والفراش الوثير الخاطف، والمكتب على يمينه تناثرت عليها بعض الأوراق البيضاء التي ستملأ اليوم بمقال جديد لا يعرف صاحبه بذرة موضوعه حتى الآن، وعلى المكتب اصطفت الكتب بعضها فوق بعض آخذة من ينظر إليها من حسن ترتيبها مرة وعناوينها أخرى والكتب دائما تجذبنا حتى لو كنا لا نستطيع القراءة والكتابة، وعلى يمين المكتب أُسدلت ستارة باللون الفيروزي القاتم والضوء يغازلها بأشعته الذهبية كأنه يغريها أن تكشف عنه حجاب الغرفة لترسل جنودها وتسيطر على هذه الرقعة من الأرض. وهذا «خالد نابغ» قد أحس بأنفاس الصبح تداخله وتخامر كسله فيتمطى ويفتح عينيه على لوحة كتبت بالخط العربي لطالما أحب أن يبدأ يومه بها (ما أضيق العيش لولا فسحته الأمل) هكذا قرأها بأمل يخالطه؛ فاستوى جالسًا يقلب ناظريه في الغرفة كأنه يطمئن نفسه أنه ما زال في مرقده ومحل سكنه، فتبدو الرسوم من حوله جميلة كأنه يراها للمرة الأولى لكنه عندما سأل نفسه لمَ يطيل النظر إلى أغراضه؟ جاوب على البديهة: إن الأشياء تزداد جمالًا كلما حدقنا فيها.
يبدو طيب النفس في هذا اليوم الذي استيقظ فيه قبل المنبه، وهو الرجل الذي يكره الضغوط والمواقيت، فهو من النوع الذي يعتبر أن المنبهات وساعات العمل كالأوتاد التي تُدق في الأرض ويربط فيها البهائم، والمرء حين تكتمل له فكرة من محض تأمله تسري نتيجتها والعمل بها سريان الدم في العروق فتصبح جزءًا لا يتجرأ عن شخصيته.
قام يرتدي ثوبه المجهز من الليل فلم يكلفه هذا خراب مزاجه في الساعات الأولى من يومه ولا تعب أعصابه النائمة، واستقل سيارة أجرة على الجهة التي يريدها فلم يجد صعوبة في وصف المكان للسائق، ولم يتغطرس السائق في هذه المرة ويلف به ويدور حتى تزداد عليه الأجرة، وهذا الأمر الأخير يعود إلى خشونة ملامحه وشدتها فلو رأيته لحسبته قائد معركة أو سائق قاطرة، فأفادته هذه الملامح التي ينقمها خالد نفسه في أغلب الحالات.
كان اليوم من أيام الصيف التي لا تساعد المرء على التأمل سوى أن يستجير بالله من قيظ جهنم، ترى الناس في هذه الأيام كالدبابير الطائرة كل يمتطي نعليه ويسابق الريح منكفأ على وجهه كالمهتم، وما هي إلا لحظات ووصل خالد إلى مقر الأحوال المدنية للخدمة السريعة) وقد احتاج أن يستخرج بطاقة شخصية في التو واللحظة لضيق وقته، وقد قرأ في أحد المواقع أن الخدمة المدنية قد جعلت لها أفرعًا للخدمة السريعة، فابتسم على أثرها وراح يُعمل فكره ويضيق عينيه كالمرتاب قائلا: لقد تحولت الرشوة من الموظفين إلى الهيئات وكنا في السابق نستعجل الأوراق بالرشوة، اليوم أعيش لأرى الرشوة تقنن ويصبح ما هو عادي مميز وله تكلفة أعلى.
دخل المبنى فوجد عشرة شبابيك وعشرة يافطات كل يافطة تحمل المصلحة التي يقوم بها الموظف من تحتها، فقلب عينيه في ذهول إذ راعه ما رأى: وجد تسعة من تلك الشبابيك خاوية لا يقف عليها سائل واحد، وشباك واحد يقطره مائتي واحد يريدونه وقد سدوا أفقه وحجبوا يافطته ومعالمه، فشبّ واستطال وتبين أنه الشباك المراد، فتأفف من سوء حظة وطول يومه ولو استطاع أن يقذفهم بالحصى لفعل، فأخذ دوره وتململ قليلا ثم انخرط فيهم وأصبح منهم، يحمل همهم ويساعد من أراد مساعدة ويرشد من ضل الطابور، حتى سمع لغطا وهرجا ومرجا ففتح عينيه على رجل أربعيني يدب الأرض برجليه والنار يتطاير من حدقتي عينيه، فتبين أنه يصارع الموظف على رأس الطابور، فتسمع حديثه فوجده يقول للموظف:
– اكتب صايع! اكتب حرامي! اكتب أي شيء (هذا هو المسمى الوظيفي على ظهر البطاقة المصرية وقد قالها الرجل احتجاجًا على الموظف حين قال له لن أكتبك صاحب شركة كما كانت في البطاقة القديمة، لأن السجل التجاري لم يُسجل به ذلك).
لم تنزل عين خالد عن الرجل فأخذ يتفحصه كعاهرة، وقال: ما باله استشاط غضبًا حينما طلب منه الموظف إثباتًا للوظيفة، وإن لم يأت بإثبات فلن يُقبل منه وستُرفض استمارة الطلب، لقد أغرب خالد ولم يكن قبل اليوم ممن يتضامن مع موظفي الحكومة؛ وجنح بفكره بعيدًا: لقد خُيّل إليه أن القيامة قامت وانهدت الأرض ومدت وألقت ما فيها وتخلت وجُمع الناس ليوم لا ريب فيه، واتضح على الأفق رجل كالرجل الأربعيني الثائر الغاضب وهو بين يدي ملكٍ يحاسبه، وقد كان للرجل ألقاب في الدنيا سعى سعاية الوحش حتى يبلغها، فناداه الملك باسمه متجرد من كل لقب وسلطة، فراعه ما سمع وانتفض وطالب بألقابه حتى تكون له عونًا ونصيرًا ساعة حسابه، لكن الملك يقول له: هذا وهم توهمته وبرق خُلّب وسحابة صيف لن تمطرك وإنك لتحاسب بهذه الألقاب محاسبة البخلاء.
رجع خالد بوجهٍ غير الذي ذهب به، وللمتأمل آيات وعبر حين يسبح بخياله، فحمد الله على ما هو فيه وما آلت أموره إليه، وذهب إلى الرجل يهدئ من روعه ويستعطفه فأبى الرجل عليه واستنكره وكاد يبطش به قائلا: أنا مدير شركة يا ولاد الكلب! أنا مدير شركة يا ولاد الكلب! فلملم خالد ما تبقى من كرامته واستدبر عنه وتركه يتميز من الغيظ.

من يوميات السيد: نابغ خالد – لقب فارغ «5»
Comments (0)
Add Comment