من يوميات السيد: نابغ خالد – السرقة «4»

بقلم: محمود أمين

تنبيه:
لا تأمل تجد هنا قصة ترفع عنك عناء الحياة وتستجلب لك نسيم البحر، لكنك واجد غصة في حلق كاتبها ستنتقل إليك فور انتهائك من قراءتها، غصة الغيور الذي ينفعل لغيره ويكره أن يراه مسلوب الإرادة في زمان بات الناس كلهم في لهو وسهو لكأنهم ربطوا بخيوط العرائس ويد تحركهم من أعلى؛ والإرادة تنعدم حين يغيب الوعي وإذا غاب الوعي فمن المحتمل أن تحدث كارثة وإن كانت تشي بأنها بادرة.
السرقة في منظورها السطحي هي أخذ ما ليس من حقنا، هو السطو والاستلاء والخطف والنزع عنوة، والحكم المدني في مصر يطبق على السارق في قانون العقوبات سجنا مدته ثلاث سنوات، والناظر في عقول الناس يجد انعكاس هذه السطحية على أفكارهم، فيتحرز ويحرص كل واحد على حاجته المادية من السرقة أو الخطف، بل يحتال بعقله ليواري على السارق، فقد سمعت أحدهم يقول حين أذهب للبنك آخذ معي كيسا به فاكهة أو خضارًا وأضع المال بعد سحبه بين الفاكهة والخضار، وبذلك أصون نفسي ومالي من السرقة فمنذا الذي يفكر في هذه الحيلة.
فكر «نابغ خالد» كثيرا في تلك الخاطرة التي تراوده كلما نظر إلى موظف يحتضن شنطته، أو امرأة تتأبط كيسا أو طالبا يبدل مكان حافظة نقوده كلما ركب المترو من جيبه الخلفي إلى جيبه الأمامي أو شابا يمسك هاتفه بكلتا يديه في بخل الحريص كأنه يمسك ماسة.
وأخذت تلطم رأسه الأفكار أكثر كلما فتح أمامه أحد أن فلانا مر بطريق وعر لا ناس فيه غير قاطعي الطريق فسلبوه ماله وممتلكاته، فأخذته الحمية وتعامل بعصبية بعد أن فار الأدرينالين في عروقه فضُرب وأهين وعاد مكسورا إلى بيته، وقد كان من أهل الحي الذي يسكنه نابغ خالد؛ فأخذها ثغرة وفرصة يتأملها من ضمن تأملاته الفكرية.
ضغط على زر الجرس فأطار عصفوره الحبيس بصوت صاخب لا يوحي بالسكينة.. خطى خطوة للخلف وقد تكلف الحزن على جهه والاحتشام.. تنحنح حتى لا يتلعثم في كلماته التي كررها أكثر من مرة في ذهنه حتى لا يحول موقف المواساة إلى تعتعة وصمت عاجز.. فُتح الباب فجأة ومن ورائه جثة مكفأة باحديداب المرض.. فالتقت العينان كأن السلام لا يصح إلى من خلالهما.. سلم «نابغ» على الضحية في رقة وعذوبة كأنه يحنو عليه من شدة ما لاقى ابن حيه من أولاد السفلة.. وقد أيقظت الندبات والجراحات في وجه الرجل حمية القبيلة لدى «نابغ»، ولكنها مشاعر زائفة توقظها النفس القديمة التي كانت تعيش في قبائل كل يدافع عن القبيلة.
– لا بأس عليك يا «أحمد»!
(قالها نابغ وقد اعتلى وجهه حزن عميق مشوب بهمهمة المتسرع في الكلام)
– الحمد لله على كل حال.
– كل شيء يعوض إلا الصحة.
فاستفزه «نابغ» عن قصد حتى يعرف الدافع من وراء تصلبه أمام قاطعي الطريق، واحتدامه معهم في معركة قاتلة، فإن الرجل ما هو إلا فكرة يمشي على الأرض، ولا يغير الرجل في أسلوبه إلا تلك الأفكار التي يتبناها، فلو بنى فكرة الشهامة في رأسه لصار شهما يدافع ويناضل عن ضعاف الناس ويدفع عنهم كل جبار مستكبر.
لم يفطن «أحمد راضي» لمقصد «نابغ» من تلك الإبر الخبيثة التي تخلو منها أحاديث الرجال عادة فهي عادة للنساء يألفنها في مجالسهن كالدبابير.
فقال أحمد راضي: وماذا أفعل بصحتي بعد ذهاب مالي، وإني أفضل الموت على أن يعايرني الناس ويقولون أخذوا ماله ولم يرفع جريدة نخل في وجوههم.
لقد فطن نابغ إلى الفكرة والمبدأ الذي أردى بصاحبه في غياهب أولاد السفلة، لقد أطعمته مقالة (الناس) بدون شفيع إلى أفواه السباع، لقد تحولت السرقة إلى فكرة مركبة من أبسط العناصر فأصبحت أقوى مركب في رأس أحدهم، يقول الرجل: ماذا يقول الناس عني؟ فأتعب نفسه وحملها ما لا تطيق، ولو هو بدل الفكرة بفكرة حفظ النفس وسلم ما معه لهم لحفظ نفسه من المتاعب أو أنه نطق يقينه باسم الله واستنصره لنصره، ولكنه ذهب صيدا والصيد يُجذب ولا يتحرك بإرادته.
مال نابغ برأسه كالمنصر في معركة الحياة، وفتح عينيه في انتباه المشغول بخاطره، وحديث النفس يحلو عندما تكون الواقعة بعيدا عن نفوسنا، فيتحول بائع الفول إلى فيلسوف والبواب إلى مصلح اجتماعي.
لم يثبت من الأفكار التي تطايرت كالصحائف أمام الريح إلا فكرة واحدة للسيد نابغ هو أن أحمد راضي سُرق قبل أن يُسرق (نطق بهذه الكلمات ولم يكن في وعي أنه لفظ بها) فاستجوبه أحمد وقال: ماذا قلت؟
– إنك سُرقت قبل أن تُسرق.
– وكيف هذا؟
– سرق الناس فكرك فاستبدلت الفكرة المسروقة بفكر جديد ولكنه غث ردئ لا يصلح أن يقف أمام نسمات الهواء لأنه مهترئ.
– وما هي الفكرة التي سرقت؟
– حفظ النفس.
– وبما استبدلتها؟
– بالخوف من كلام الناس.
(هنا رجع أحمد راضي بظهره إلى الوراء وأسند ظهره على ساري السرير، وأطرق مليا ثم عاد الصياد الذي طارد فريسته طويلا، فقال: أحسنت، فإني أنظر في عيون الناس منذ الصباح ولا أجد في عيونهم أي فخر تجاهي بل كنت أستغرب نظرات الاحتقار، وقد صدق المكوجي حين تسمعته من أعلى يقول لزبونته: إن أحمد راضي كاد يقتل نفسه مقابل حافظة نقوده إنه والحمار سواء، وقد ظننت أنه يحمل الضغينة والحسد كأي حسد طبقي يحمله الأقل لمن هو علاه.
فاستأذن نابغ فأذن له ولكل منهما عقل يدور كالطواحين.

رئيس مجلس إدارة جريدة القاهرية

من يوميات السيد: نابغ خالد – السرقة «4»
Comments (0)
Add Comment