كتبت/ سالي جابر
” أكتب لكم عن المزيج الذي فرضه القدر علينا بين اللون الأبيض والأسود، ولكني كنت مخادعًا، فكتبت لي وحدي اللون الذي طالما سيطر على حياتي وحده، الرمادي سيد كل الألوان وما غيره كذب ووهم، أمن به البعض، وكفر به الآخر”
رواية الكاتب( محمد طارق) وهذه القطعة أخر ما خطه في تلك الرواية البديعة التي تحمل لنا مأساتنا في الحياة، وسبب أوجاعنا حيث قال” لازلت سجين طفولتي، ولا زلت أشتاق وأحن إلى الماضي” ” البشر عمومًا يرفضون مواجهة الواقع والأعتراف بالحقيقة” ” أصبحت شخصًا يعاني من انفصام داخلي، الأول شخص مستقر وهاديء يرفض الحديث عن الماضي وعن أوجاعه، والآخر شخص يبني أسوارً عالية ليحافظ على ماضي، كأنه سجين يرفض من سجانه إطلاق سراحه”
بطل الرواية هو كاتب ومعالج نفسي، ذكر العديد من الحقائق التي نعيشها؛ لكن لا نعترف بها في حياتنا، فلقد عانى البطل من النهايات الصادمة الموجعة، فيما يخص حياته الشخصية، أو ما يدونه من مأساة المرضى المترددين عليه، وكانت الرواية تحمل بين طياتها أفكار رائعة تذكرنا بمراجعة النفس ومحاسبتها حتى لا تصل بنا الحال إلى ما هو عليه، تحدث عن العزلة وأثرها في النفس، وعن الحب، وعن وجع الفراق والنهايات، وعن الانتظار وكيف يمر الوقت بنا، فقال:
” في قانون الانتظار قد تأتيك أجمل الأشياء دون أن تنتظر، فقط لأنه ليس الشيء الذي تنتظر”
” في قانون الانتظار تتحول عقارب الساعة إلى سلاحف شديدة البطىء معدومة الحركة”
وتحدث عن الحب ببراعة فقال” الحب يشي بنا … لا نستطيع كتمانه أو الاحتفاظ به، إنه يظهر على ملامحنا ، يظهر في ضحكتنا وتصرفاتنا، إنه يعيد لنا صفاء ملامحنا ويجعلنا نتعامل مع الحياة ببساطة وتلقائية. في كثير من الأحيان يعيد الحياة للرجال، لكن دائمًا يصبح الحب الحياة في حياة المرأة”
ما أجمل تلك الكلمات الصحيحة الرائعة التي نستشعرها جميعنا متى وقعنا في الحب، حقيقة الحب أنه يفضح المحبين من نظرة وربما بهمسه؛ لكنه ترك لنا تساؤلًا : ” هل نستطيع أن نحمي أنفسنا من الوقوع في الحب رغم خوفنا الشديد من النهايات، ورغم تجاربنا السابقة؟!
من خلال الرواية، الجميع وقع في الحب وترك لقلبه العنان والتحليق في سماء الحب، يقودنا الحب إلى طريق مجهول لا نعلمه كـ سيارة دون فرامل، قمنا بالمخاطرة حينما قمنا بقيادتها؛ لكن دائمًا الحب هو من يقودنا، وغالبًا ما يتربص بنا في أقرب بئر أو حفرة بالغة العمق، لا نستطيع الخروج منه إلا ونحن على سرير المرض نتعافى من خيباتنا، وهكذا كان البطل هنا استفاق من فراق حبيبته على سرير في مستشفي رعاية نفسية في باريس.
وفيما يخص الحب أيضًا تطرق إلى نقطة أخرى فقال:” إن الرجال لا ينسون عشقهم الأول مهما حدث، حتى وإن كفوا عنه، يبقى شيء مقدس في ذاكرتهم”
في رأيِّ انا أن الحب وردة جميلة إن سُقيت بالاهتمام والثقة بقيت أمد الدهر، لا يهم إن كان الحب الأول أو لا، الأهم هو مصداقيته اللامتناهية حتى وإن تفرقا الطرفين لأسباب خارجة عن إرادتهما.
– وقال لمحبوبته:” لا اريد أن تتحول علاقتنا العاطفية لعلاقة عاطفية روتينية”
رفض كل العشق والحب ظنًا منه أنه لا يكتمل، خوفًا من النهايات الموجعة دون أن يحاول التمسك بحبه؛ لكن الحب دائمًا أقوى رغم محاولة هروبنا منه.
وتطرق للجانب الآخر الذي أود ذكره في هذه الرواية الرائعة؛ إن أكثر ما جذبني لها أن الإنسان مهما بلغ من علم فإن مدرسة الحياة بليغة بالصور الجمالية التي توضح لنا الطريق إن أردنا العلم حقًا.
وأن المرضى النفسيين أحيانًا ما يذهبون إلى المعالج النفسي ليجادلونه، أو ليثبتون له أنهم أكثر علم منه، أو أن العلاج لا طائل منه ولا جدوى، وهذا ما لم يوضح الكاتب حقيقته، ويثبت عكسه؛ بل إن سطور هذه الرواية جاءت بما لم يحمله العلاج النفسي من حقائق؛ فالعلاح النفسي مهنة أخلاقية سامية لها آداب وأخلاقيات لا يمكن تخطيه وإلا حدثت أخطاء فاضحة.
أولًا: كانت العلاقة بين المعالج والمريض علاقة غريبة بل لابد أن تكون علاقة مهنية من الدرجة الأولى تحمل الثقة والطمأنينة لقلب المريض.
ثانيًا: المعالج هو من يحدد موعد الجلسه ومكانها وليس المريض، وهو من يبدأ الجلسة وينهيها؛ وهذا لم يحدث قط.
وذكر الكاتب عن حالة تـدعي( دنيا) تعاني من حالة أوديونُفوليا؛ وهي الخوف المرضي المتواصل من نشاطات معينة عند حدوثها أو مجرد التفكير فيها، ودائمًا علاج الخوف المرضي أسهل ما يكون ولا تستدعي الحالة التواجد داخل المستشفى، إلا أنه أخطأ وذكر اسم سارة بدلًا من دنيا متأثرًا بمسلسل سارة، وذكر أن حالة دنيا وصلت للبكاء الهستيري إلي حد أنها أخذت وضع الجنين، وهذا لن يحدث إلا في حالات الفصام التخشيي، وليس الرهاب.
ورغم كونه معالج نفسي إلا أنه مستهدف نفسيًا من كثرة ما يسمعه من المرضى متأثرًا بهم فيمرض هو وينعزل؛ يحدث هذا عادةً؛ لكن المختص لديه استراتيجية التغلب على هذا، والتخلص من السلبيات من حوله.
وذكر أيضًا عن الشخصية( تريزا) المرأة العجوز التي لم يرها قط، إلا إنها كانت تأتيه وتتحدث إليه، وقال:” إنه الاحتياج الذي يخلق لنا شخصيات وهمية لنشعر بدفء واطمئنان، هذا ما كنت أعاني منه، فحين تغيب الرحمة في الواقع، تبقى رحمة الخيال فرض”، التوحد مع الخيال إلى حد أننا نتخيل شخص نتحدث معه خطأ جسيم لمعالج نفسي يعلم ما يفعل، والأدهى من هذا أن تلك الشخصية الوهمية تركت له رسالة على مكتبه.
دام الكاتب بخير، ودامت كلماته مؤثرة وجميلة، ودام إبداعه أمد الدهر.
<img class="j1lvzwm4" role="presentation" src="data:;base64, ” width=”18″ height=”18″ />
١رانيا ضيف
٢ تعليقات