سلسلة عالم لكل العصور (الحلقة الثالثة)

 

كتب د _بدران رياض 

العلامة الحكيم الترمذي الحافظ ، العارف ، الزاهد أبو عبد الله محمد بن علي بن الحسين الترمذي الملقب بالحكيم أحد علماء أهل السنة والجماعة ومن أعلام التصوف السني في القرن الرابع الهجري، من كبار مشايخ خراسان، لقي مجموعة كبيرة من أعلام الأمة ومربيها وكان ذا رحلة ومعرفة ، وله مصنفات وفضائل عرف عنه التفقه في علم الحديث والفقه، وذلك بسبب والده وقد غرس فيه منذ صغره حب العلم وتحصيل المعارف في كافة العلوم الإسلامية، فقد كان والده عالما من علماء الفقه والحديث تلقى الحكيم الترمذي دروسه الأولية التأسيسية عنه.( توفي سنة 320 هـ).

 وشيخنا الحكيم الترمذي عالم محدث وواعظ جليل وصاحب سبق في التحليل النفسي الذي يكشف به عن الأغراض المخبأة للنفس البشرية وله مسلك يختلف كلية عن طرائق الفقهاء المتعلقة بظواهر الأعمال والأحكام المتعلقة بمعاملة الناس بعضهم بعض دون النظر إلى خبايا النفس وما يتعلق بصدق النيات أو فسادها .

 فهو حين يشرح الأحكام الشرعية لا يكتفي بظواهرها بل يتعمق في أسرارها ويتحدث عن عللها وأسرارها بطريقة يصيب فيها أحيانا ويجانبها الصواب في بعضها شأن كل ناظر مجتهد .

وله مؤلفات متعددة ولعل أجلها كتاب “نوادر الأصول” من أشهر كتب الحكيم الترمذي وأكثرها تداولاً في القديم والحديث، وذلك لما يحمله الكتاب من سمات خاصة تجعل له أهمية خاصة بين الكتب الحديثية المعروفة عند المسلمين والكتاب بشكل عام يحتوي على 291 حديثًا، سمى حكيمنا الترمذي كل حديث منها أصلاً، وبعد ذلك أخذ في شرح الحديث التي ساقه بعد روايته، وفي خلال شرحه يقدم فهمه وتذوقه للحديث النبوي المعروض، محاولاً إبراز المعاني التي يريدها من الحديث متخذًا من لفظ الحديث مادة يؤيد بها ما ذهب إليه من أحكام في مسائل العبادات والمعاملات والسلوك والأخلاق ولذا قد أقبل عليه العلماء يمتدحونه لما فيه من التفصيل والاستيعاب، وحسن التبويب والترتيب .

للحكيم كتاب آخر بعنوان “رياضة النفس” تدخل في إطار الفتح الرباني تقرأ فيه كيفية رياضة النفس وترويضها على طاعة الله – عز وجل- وتعرفنا على الأكياس من الناس وكيف تنير الأنوار قلوبهم ويحدثنا الكتاب عن الفرح المحمود للمسلم وهو الفرح بالله – عز وجل – وبفضله وبرحمته والفرح بلقائه، ويوازن في الكتاب بين نور المعرفة ونور العقل وينتهي أن أهل المجاهدة فرقتان إحداهما حفظت الجوارح وأدت الفرائض حتى وصلت إلى الله عز وجل والأخرى حفظت الجوارح وأدت الفرائض بجهد وتعب ومع ذلك هناك تخليط وتهافت في الخطايا ، ثم يركز حكيمنا الترمذي في كتابه على الجوارح وكيفية الحفاظ عليها وكيف يستطيع المسلم ترويض جوارحه ونفسه لطاعة الله عز وجل فهو كتاب تربوي يعد من طليعة الكتب التربوية في ثقافتنا العربية الإسلامية .

 وللحكيم الترمذي أيضا كتاب بعنوان “غور الأمور” في هذا الكتاب يناقش “الحكيم الترمذي” ثلاثة وثلاثين مسألة، لها غور بعيد، لا يمكن استقصاؤها لبعد قعرها، وهذه المواضيع هي: صفة القلب وأسمائه، وصفة أحواله، وصفة النفس، وصفة إبليس وجنوده وبيان سلطانه عليها، وعللها، وشأنها وأحوالها، وبدئها، وصفة المعرفة، وما في حشوها، وصفة النور ولباسه، وصفة أخلاق آدم المائة خلق، وصفة جنود المعرفة، وصفة العقل ومعدنه ومجلس قضائه وأعوانه، وصفة مدائن المعرفة وقراها وآثارها وعمارها، وبيان صفة المعسكر، وبيوت الدواوين وخزائن الطاعات ومعادن الحكمة، وسجون النفس، وخلق آدم وبيان اسمه، وترجمة لا إله إلا الله، وبيان تفسير آية الميثاق في قوله تعالى “ألست بربكم”، وتفسير اسم إبراهيم خليل الرحمن، وتفسير اسم إبليس، واسم فرعون، وتفسير قوله تعالى “الله نور السماوات والأرض” وتفسير شجرة طوبى.

   وقد ظهرت في هذا الكتاب الثقافة الرفيعة التي امتلك الحكيم الترمذي زمامها وليس معنى ذلك الموافقة على كل الطرح الذي يقدمه الشيخ فهو كغيره يصيب ويهفو والكمال ممنوع على بني آدم بحكم أصل الجبلة .

وللحكيم الترمذي أيضًا كتاب يشرح فيه الأمثال من الكتاب والسنة شرحًا متوسطًا أتي فيه بالعجب العجاب ، وله أيضًا “ختم الأولياء” الذي أثار جدلا كبيرًا امتد لقرون متطولة والكتاب يتكلم عن موضوعات عرفانية عديدة، ويطرح أسئلة بلغت مائة وسبعة وخمسين سؤالًا في معرض الحديث عمن هو الولي، وما مدى علمه وسمات هذا العلم الذي يتصف به ، وأبرز نظرية خاصة به ملخصها أنه كما يوجد خاتم للنبيين وهو نبينا محمد – صلى الله عليه وسلم – كذلك يوجد خاتم للأولياء وقد أثار الفقهاء بهذه النظرية العجيبة الغريبة مما جعله هدفا لهم جعلهم يوجهون سهام النقد تجاهه وله مؤلفات عديدة لعل ما تم عرضه هي أبرزها.

 

   وعلى الجملة فالحكيم الترمذي من الشخصيات الجليلة التي ظهرت في قرون الإبداع الحضاري لهذه الأمة الفريدة وترجع أهميته أنه رجل محدّث ينتمي لأهل السنة والجماعة ويجمع بين الحديث والتصوف وتعرض لأزمة كبيرة انقسم الناس فيها إلى مؤيد للحكيم الترمذي تأييدًا مطلقًا ويتهم أعداءه بالجهل والسطحية وبين من يتهمه بالمروق في الدين وإفساد عقائد المسلمين وبين متوسط يمسك الميزان الدقيق في الحكم بما له وبما عليه .

   أما من أيده مطلقـًا وأطلق العنان لخياله في الدفاع عنه كل مذهب واعتبر أعداءه من الجهلة أو طلاب الدنيا الذين يبيعون دينهم لمن يدفع لهم ، جاهًا أو منصبًا أو مالا، ممن يمكن إطلاق لقب علماء السلطان عليهم والنموذج الذي نقدمه للمؤيدين له مؤرخ الصوفية الكبير الإمام السلمي صاحب طبقات الصوفية

    يقول السلمي عن الحكيم الترمذي: أخرجوه (الحكيم) من ترمذ ، وشهدوا عليه بالكفر وذلك بسبب تصنيفه كتاب : ” ختم الولاية ” وكتاب ” علل الشريعة ” ، وقالوا : إنه يقول : إن للأولياء خاتما كالأنبياء لهم خاتم . ويزعمون أنه يفضل الولاية على النبوة واحتج بحديث : يغبطهم النبيون والشهداء فقدم على مدينة بلخ ، فقبلوه لموافقته لهم في المذهب . وقال السلمي : هجره الفقهاء لتصنيفه كتاب : ” ختم الولاية ” ، و ” علل الشريعة ” ويجزم السلمي بعدم وجود ما يوجب الهجر في كتبه ولكن لبعد فهمهم عنه أي أن هؤلاء الفقهاء لم يرتقوا إلى أن يتفهموا ما يريد من مقاصد كلامه.

   أما من رفضه مطلقًا واعتبره زنديقـًا يريد العبث بحقائق الإسلام ويبث عقائد الباطنية لإفراغ الإسلام من مضامينه وبث أشياء غريبه عن حقائقه ولنا أن نقدم نموذجا لذلك هو القاضي كمال الدين بن العديم صاحب “تاريخ حلب” في جزء له سماه “الملحة في الرد على أبي طلحة” قال فيه: وهذا الحكيم الترمذي لم يكن من أهل الحديث ولا رواية له ،ولا [علم له بطرقه وصناعته]،وإنما كان فيه الكلام على إشارات الصوفية والطرائق ودعوى الكشف عن الأمور الغامضة والحقائق حتى خرج في ذلك عن قاعدة الفقهاء واستحق الطعن عليه بذلك والإزراء وطعن عليه أئمة الفقهاء والصوفية وأخرجوه بذلك عن السيرة المرضية، وقالوا إنه أدخل في علم الشريعة ما فارق به الجماعة، وملأ كتبه الفظيعة بالأحاديث الموضوعة، وحشاها بالأخبار التي ليست بمروية ولا مسموعة، وعلل فيها جميع الأمور الشرعية التي لا يعقل معناها بعلل ما أضعفها وما أوهاها.

  أما من أمسك الميزان وتعامل مع مزايا الحكيم الترمذي تعاملا جادًا ولم يتهمه في دينه لأجل هفواته ورد على هذه الأخطاء ردودًا علمية رصينة دون غلو يدابر الحقائق العلمية أو إطراء يخل بها فهو عندهم رجل مستقيم له حكم ومواعظ وجلالة لولا هفوات بدت منه ولعل أفضل نموذج لذلك هو شيخ الإسلام ابن تيمية فقد قال في الحكيم الترمذي وهو – رحمه الله تعالى- وإن كان فيه فضل ومعرفة وله من الكلام الحسن المقبول والحقائق النافعة أشياء محمودة – ففي كلامه من الخطأ: ما يجب رده ومن أشنعها ما ذكره في كتاب ” ختم الولاية “مثل دعواه فيه أنه يكون في المتأخرين من درجته عند الله أعظم من درجة أبي بكر وعمر وغيرهما.

   ويحكي ابن تيمية أن الحكيم تناقض في موضع آخر من كتبه ; لما حكى عن بعض الناس أن الولي يكون منفردًا عن الناس فأبطل ذلك الحكيم الترمذي واحتج بأبي بكر وعمر وقال: يلزم هذا أن يكون أفضل من أبي بكر وعمر وأبطل ذلك قلت ولعله رجع عن قوله ورد على نفسه أو حاسبوه بلازم قوله ولم يقر بهذا اللازم .

  ويواصل ابن تيمية نقده لآراء الحكيم الترمذي منها أن دعوى المدعي (الحكيم الترمذي) وجود خاتم الأولياء على ما ادعوه باطل لا أصل له في الدين ولا توجد أدلة شرعية تدعم هذا القول من قريب أو بعيد . ولم يذكر هذا أحد من المعروفين قبل هؤلاء إلا الحكيم الترمذي في كتاب “ختم الولاية” وقد ذكر في هذا الكتاب ما هو خطأ وغلط مخالف للكتاب والسنة والإجماع .   وصار على هذا النهج القويم في النقد العلمي للآراء دون الطعن والتجريح في الشخص وهي طريقة فيها فيها غلو وعدم إنصاف الإمام الحافظ الذهبي – مع التحفظ على بعض ألفاظه – والإمام ابن حجر العسقلاني الذي رد الطرائق المتهافتة التي يتعلق بها خصوم الحكيم الترمذي التي تتمثل في الغلو في الحكم على الرجل بعيدًا عن المنهجية والموضوعية التي ينبغي أن يتحلى بها الباحث العالم المسلم .

رئيس مجلس إدارة جريدة القاهرية

سلسلة عالم لكل العصور (الحلقة الثالثة)
Comments (0)
Add Comment