من يوميات السيد: نابغ خالد – خنزير وظبية «3»

بقلم محمود أمين

ماذا لو أتقنا فن الإضراب؟
قصد نابغ خالد صديقا في أمر حز صدره وأقعده عن الاستمرار في أعماله، فوجده على تلة يرعى النجوم في السماء، وعادة المشغول بأمر السماء: أنه ألقى عن كتفيه الدنيا ومن فيها، واستقبل الخالق الأعلى، قد راح يتأمل ويفكر؛ والتأمل والفكر في هذا الاتجاه لا تحده حدود ولا تحجبه حجب.
قال نابغ: يا أخي إني في شغل مذ أيام كأني أحمل فوق رأسي حال الدنيا بعد أن ضربنا الغلاء واستولى سُعار الغنى على التجار: هذا التاجر يحتاط لغده بتخزين البضاعة ويغلي ثمنها، ومع ذلك لا يبيع حتى يحتكر البضاعة في سراديب هي في نظري أفواه التماسيح تأكلنا والفقراء مع بضاعته، وذاك التاجر يتجرأ ويبيع في العلن بضاعة غثة نافقة بثمن الجيدة الحسنة، وإنا والله بين حجري رحى لا ترحم آدميتنا، ولا تشفق على أحد ولا تنظر إلا للجنيه الذي يتضخم في أيام.
قال صديقه: وهل هذه فكرة وليدة موقف يا نابغ أم هي تأملات الفلاسفة ونزاهة فكر كما عهدنا منك؟
قال: هي وليدة موقف لا وضعنا الله به: كنت في حانوت من حوانيت بيع الأجهزة الكهربائية أبتاع مروحة تبدد عنا حر يوليه وتلطف من شرره وقيظه، ألفيت امرأة تقف على مقربة مني بضة، وجهها ندي واضح الملامح، ارتسم على وجهها وقار الأمهات، وقفت أمام التاجر كأنها إمام يعرض مذهبه على جاهل، قالت للتاجر: يا سيدي هون! هون الله عليك ظلمات يوم القيامة، فإن الفائدة التي أضفتها على أصل الجهاز (هذه كلمة عادة تستخدم اختصارا لما تشتريه العروس قبل الانتقال إلى بيت زوجها)، وقد اتفقنا على نسبة الزيادة، فما أراك إلا تستأسد على ظبية لا حيلة لها إلا الفرار، وأنّا لها الفرار وقد أخذت عليّ وصل أمانة، فقال لها: هذه بضاعة لها أصحاب وليست وكالة لا أبواب لها، وماذا تظنين؟ هل أنا متبرع؟ ولوى وجهه عنها في تأفف واشمئزاز، وأطرقت المسكينة طويلا حتى كأنها غابت عن الواقع المؤلم، غابت بفكرها عن دنيا الناس إلى دنيا بنتها الوحيدة، هل ترد له البضاعة؟ هل تترك قطار الزواج يدهس ابنتها مقابل هذه المال؟ وفي شريعة هذه فرح البنات وإسعادهم غاية لا تعرفها إلا أم شريفة، توثر ابنتها عليها، تقدم سعادة الدنيا لابنتها وتضع يدها في الحديد، الآن رفعت رأسها بعينين لامعتين مشوبتين بالحزن العميق، فرحلت وأورثتني هما يزيد في التضخم حتر لقيتك يا صديقي فخذ عني بعض ما أجد.
قال صاحبه: إنها والله ظبية أمام خنزير كما وصفت، وإنها لآية تدل بنفسها أنها شريفة سامية، وهو أي التاجر معنى خبيث بين بضاعة خبيثة.. اجتث الله ذكره من على الأرض!
فقال نابغ: اللهم آمين. وبدت رأسه كأنها تصغر بمقارنة فكره بفكر السيدة التي لقيها، وكعادته في المقارنة؛ قال: وما الحل؟ وأردف قائلا بعد سكتة: أعتقد أن الحل في فن الإضراب، إننا أناس لا نحسن هذا الفن في الأساس، فلو أضرب المظلوم يوما لنبّه الظالم لجريرته التي تبتلع الفرحة وتقلله من هذا العالم، ولأخذوا على يديه كثيرا مما يضاعف لهم من ثمن ما يشترون، ولقد حضرني وقتها: لو ردت المرأة البضاعة للرجل وأخذت كل ما أعطته من مال لاجتمع لها المال الكثير، ولكن المصيبة قضت أن العروس لا تجتمع بزوجها إلا بقضبان توضع أمها خلفه، وكنت أقول في نفسي: من الزوج؟ أين هو من تلك الطامة التي تسرق عمر امرأة أرادت العفاف لابنتها، ألا يخفف الزوج من تلك الطلبات كما كان في القدم، وإن جهازًا جاء بغلبة النفس وقهرها لهو حبل يخنق أصحابه، كان الله بعون هذه الغارمة، وقضى عنها دينها، وسهل لها أخلاق الرجل.
فقال صاحبه: آمين (وهو يتابع نجماته الفاتنات).
فقال نابغ: تالله إننا لنهزأ بالحكمة، وما تحركت الفضيلة شبرا من تحت الركام، وما تجاذبنا الحديث إلا نزاهة فكر، وقد جَمُلت الإنسانية أن اثنين تناولوها في كلامهم، وتجبر الحل علينا إذ كنا اثنين لا عمل لهم إلا الفكر، والفكر إن لم يؤكد بالعمل فهو كتاب فيه الحكمة ولكنه منسي في ركن ما من أركان المكتبة.
فقال صاحبه: لقد شردت يا أخي، فإن الله يبدل بالفكر أقواما؛ عملها عمل الرسل في القوم الجاهلين، وما أحسب الفكرة خلقت إلا من نور، يظل الناس في ظلمات أفكارهم حتى تأتي الفكرة الصالحة تتدلل بوقارها وفيها نور الصلاح.
فقال نابغ: صدقت يا أخي، وإن النور يبهر العيون والقلوب، وأتمنى على الله أن يوصل صوتينا أعلى عليين، وأن يبلغ كل إنسان؛ لعلها كنداء أبينا وسيدنا إبراهيم عليه السلام.

رئيس مجلس إدارة جريدة القاهرية

من يوميات السيد: نابغ خالد – خنزير وظبية «3»
Comments (0)
Add Comment