كتب د_ بدران رياض
أبو اسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي ” ت1388م،790 هـ”
نشأ الشاطبي وترعرع في غرناطة قِبلة أهل العلم في الأندلس وتنقل في ربوع الأندلس طالبا للعلم النافع بجد ونشاط تصاحبه المحافظة والديانة والتمسك بالسنن ومجانبة البدع بمختلف ألوانها في العقائد والعبادات على حد سواء واضعا نصب عينيه سير أكابر علماء الأمة.
وهو يعد من العلماء المتفننين الذين تمكنوا من علوم عديدة تعلما وفهما ثم تعليما وإفادة تشهد بذلك سيرته الزكية وشيوخه الأكابر ثم مؤلفاته القيمة في الفقه والأصول واللغة والإصلاح الاجتماعي.
وإذا نظرنا في سيرة الشاطبي تعرفنا على مواهبه وجهده بل وطاقته الخلاقة المبدعة فاسمع له يقول عن نفسه :” وذلك أني ولله الحمد لم أزل منذ فتق للفهم عقلي، ووجه شطر العلم طلبي، أنظر في عقلياته وشرعياته، وأصوله وفروعه، لم أقتصر منه على علم دون علم، ولا أفردت من أنواعه نوعا دون أخر، حسبما اقتضاه الزمان والإمكان وأعطته المنة المخلوقة في أصل فطرتي، بل خضت في لجاجه خوض المحسن للسباحة، وأقدمت في ميدانه إقدام الجريء) وهذا في الحقيقة يذكرنا بما قاله الإمام أبو حامد الغزالي عن نفسه في سيرته الذاتية في كتابه الأجل (المنقذ من الضلال ) مما يدلنا على تشابه العقليات المبدعة في سيرها وطلبها للعلم .
فقد لحقته العناية الإلهية في نشأته المستقيمة التي كان لها الدور الأكبر في المضي قدما بعزيمة فولاذية في دربه الصعب، بل وخط لنفسه آليةً لأخذ العلوم المختلفة وقد عَبر عنها بنفسه فقال:” فمن هنا قويت نفسي على المشي في طريقه بمقدار ما يسَّر الله فيه، فابتدأت بأصول الدين عملاً واعتقادًا ، ثم بفروعه المبنية على تلك الأصول وهى طريقة سديدة في التحصيل العلمي نالها بالتوفيق الإلهي . وقد شرط على نفسه شروطًا لا يحيد عنها مهما كلفه ذلك من مشقة .
ويمضي الشاطبي متحدثـًا عن نفسه بما رزقه الله تعالى من الهمة وبما من الله عليه من فهم : ” إلى أن مَنْ علىًّ الرب الكريم، الرؤوف الرحيم، فشرح لي من معان الشريعة ما لم يكن في حسابي…”.
ولم تكن الطريق ممهدة أمام الإمام الشاطبي، بل واجه العديد من الصعاب التي أوشكت أن تثقله إلى الأرض وكان من أبرزها ما أثاره بعض أهل العلم الذين عجِّلوا عليه أمره ممن عاصره منهم، ومن جاء بعدهم ممن سار على ضرب أهل العجلة من المنسوبين إلى العلم ممن يبتغون بالعلم الرفعة والمكانة بين الخلق ففهموا مقصده على غير وجهته، بالإضافة إلى أهل البدع والضلالات الذين لا يذرون في مؤمن إلاً ولا ذمةً، فاتهموه بكثير من الأمور التي لا تقبل فيمن هو دونه
إنه الإعداد الإلهي فقد رعته يد الله لينشأ نشأًة بعد آخري، لمرحلة يكون الإسلام أحوج إلى علمه الزاخر، تماشيًا مع حاجة الإسلام المتنامية يومًأ بعد يوم، لما يَجِدُّ من حوادث، فيكون امتدادًا بأصل التشريع إلى فرعه، لتكتب السلامة والنجاة لأهل هذا الدين الحنيف على يد هؤلاء الرجال الأفذاذ
ومن كتبه القيمة (الموافقات في أصول الشريعة) وهو كتاب مكون من أربع مجلدات ضخمة تحدّث فيها عن نظريات الأصوليين بطريقة إبداعية وفذة يصحح المفاهيم ويدقق في المسائل ببيان واضح بعيدًا عن العبارات الأصولية التي قد تنبو عن الأفهام.
ومن كتبه (المجالس) شرح به كتاب البيوع من صحيح البخاري، (الاتفاق في علم الاشتقاق) في علم الصرف و (أصول النحو) .
ومن كتبه القيمة أيضا كتابه الإبداعي الفذ (الاعتصام بالكتاب والسنة في الرد على أهل البدع ) وهو الكتاب الذي جلب له المتاعب والأذى في حياته مع جماعات المتصوفة المتأخرين من أصحاب الرسوم والأشكال المدافعين عن البدع و التقليد الأعمى الترخصات الجافة المنافية لأصول الشريعة ومقاصدها
ومن كتبه ذات الأهمية (شرح الألفية) سماه (المقاصد الشافية في شرح خلاصة الكافية -) وقد قال شهد له الكثير من علماء اللغة: لم يؤلف في شرح الألفية مثله، بحثـًا وتحقيقـًا مما يدل على التمكن والرسوخ في علوم اللغة
فيكون الشاطبي بذلك قد حاز فنون معظم علوم الشريعة، وتمكن من علوم الآلة و وألف المؤلفات فيها وانتفع به القاصي والداني من طلاب الشريعة، وهذا ما أهله بعد ذلك لينتج نظرياته الفقهية والأصولية التي أفصحت عن مراد الشارع، وكشفت للناس ما خفي عليهم من أسرار الشريعة ومزاياها.
وقد خلدته هذه المدونات العظيمة التي أضحت النور الهادي إلى الصراط المستقيم لطلاب العلم والهداية كما أنها الشوكة التي تؤرق أهل البدع والضلالات على مر العصور؛ فشيخنا لم يكن عالما يعيش مشكلات عصره فقط فقد امتد بصره وعمق بصيرته أن يقف على الأمراض المزمنة للأمة يصف الداء ويقدم الدواء مما يمكننا معه الجزم بالقول بأن النهضة العلمية واليقظة الفكرية التي شهدها المسلمون في أوائل القرن الميلادي الماضي فأئمة على تراث علماء كثر في مقدمتهم بطبيعة الحال أمامنا الشاطبي.