كتب _ رائد حميده
لا ينقضى عجبي من صمود أهل غـزة الأباة!
غزة تلك المدينة الباسلة من أرض الله التى تذود عنها الشمس ويحرسها القمر كأنها سماء على أهبة الوحي أو أرض تتهيأ لنزوله، يعرف أهلها بعضهم بعضًا بالاسم واللقب والعائلة، ويحفظ كل طفل فيها عن ظهر قلب عدد شوارعها وحاراتها وأشجارها والسحائب التي تمطر عليها.
غزة التي في أهلها قال رسولنا – صلى الله عليه وسلم- عندما تحدث إلى أصحابه ذات مرة عن الطائفة التي تسير على الجادّة : “لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ لَعَدُوِّهِمْ قَاهِرِينَ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ إِلَّا مَا أَصَابَهُمْ مِنْ لَأْوَاءَ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَذَلِكَ”. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَأَيْنَ هُمْ؟
قَالَ: “بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَأَكْنَافِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ”. وهل غزة إلا من أكناف بيت المقدس؟!
غـزة التي حملت على عاتقها – ومازالت – أعباء الأمة، ولم تتقصّد ذلك ترفًا ولكن كان قدرها أن تنافح عن مقدسات هي بالأساس إسلامية! فراحت تُثخنُ في العدو الجراح، وترغم أنفه في التراب، وتلجئه إلى الهرب في المخابئ، ولا توجد في معجم أبطالها مفردة من مفردات الاستسلام أوالخنوع، وكأنهم يتمثلون قول جدهم الإمام الشافعي الذي مسقط رأسه غزة:
إذا هبت رياحك فاغتنمها فعقبى كل خافقة سكون
غزة المحاصرة من عدو يدكّ بنياتها صباح مساء ويتنفس أهلها رائحة البارود وتلبس في معصمها كل القيود لكنها تقاوم مقاومة الذي يحب الموت في حين أن عدوها أحرص الناس على حياة!
غزة التي كان رابين يحلم بأن يستيقظ من نومه ليجد غزة وقد ابتلعها البحر، وكان لا يفتأ يقصَّ رؤياه على من حوله علّه يجد من يفسر له حلم اليقظة الذي لا يوسف له، بيد أن البحر لم يبتلع غزة!
أتدرون لماذا؟ لأن غزة حبيبة البحر وملهمته التي توحي إليه، تتدثر حين يجن الليل بأحزانها الباقية وجراحها التي لا تندمل، وتروي حين يشرق النهار أشعاره المحفورة على جدرانها التالدة؛ فيتفيأ فيها ظلال نخلاتها الباسقة التي هي أطول عمرًا من عمر المحتل.
غزة التي في كل زقاق من أزقتها حكاية لم تُحك بعد، وعلى كل رملة من رمالها بقايا دماء شهيد لم تتخثر، وكل موجة تغازل ساحلها تراود فتيانها عن أنفسهم بقول ابن طولكرم
عبد الرحيم محمود:
سأحملُ روحي على راحتي وألْقي بها في مهاوي الرّدى
فإمّا حيــــــــاةٌ تسُرُّ الصديقَ وإمّا ممـــــــاتٌ يغيظ العِدَا