رحاب الجوهري
بدأت حكاية القصر في منتصف القرن التاسع عشر، بعدما أعاد الخديو إسماعيل تخطيط القاهرة ليجعل منها قطعة من باريس، إذ تطورت المدينة وامتدت مساحتها لـ1000 فدان بمساعدة نخبة من المعماريين على رأسهم الفرنسي هاوسمان، فازداد إقبال الأسرة العلوية عليها بعدما ظهرت الميادين الواسعة وانشأت الأحياء الجديدة كجاردن سيتي والزمالك، تضاعف عدد قصورهم في وسط المدينة وكان ضمنهم “قصر البستان” الذي توسط أحد أجمل شوارع العاصمة آنذاك.
عاش الأمير فؤاد ابن الخديوي في القصر وحتى عزل الخديو إسماعيل عام 1879، إذ اصطحبه الخديو إسماعيل معه إلى المنفى في إيطاليا، وهناك التحق بالمدرسة الملكية في مدينة تورينو الإيطالية، ثم انتقل منها برفقة والده إلى الأستانة بعد شراء الخديو إسماعيل سراي مطلة على البوسفور بإسطنبول، ثم انتدب ملحقًا حربيّاً لسفارة الدولة العثمانية في العاصمة النمساوية فيينا.
ظل القصر شاغرًا لنحو 11 عامًا حتى عاد الأمير فؤاد إلى مصر عام 1890، لم يترك الأمير قصره رغم كونه عُين ياورًا للخديو عباس حلمي الثاني (وهي رتبة عسكرية تعني بالتركية رئيس الحرس الملكي)، وعقب 3 أعوام ترأس الأمير فؤاد اللجنة التي قامت بتأسيس وتنظيم الجامعة المصرية الأهلية، وعقب وفاة حسين كامل عام 1917 خلفه في حكم مصر فأصبح سلطانًا لمصر ثم ملكًا لمصر وسيدًا للنوبة وكردفان ودارفور عقب الاستقلال وتغيير نظام الحكم عام 1922.
انتقلت ملكية قصر البستان ضمن أملاك الخاصة الملكية عقب وفاة الملك فؤاد الأول عام 1936 إلى ابنه فاروق الذي ورث حكم أبيه فتحول القصر في عهده إلى مقر لوزارة الخارجية.
لم ينفصل هذا القصر عن السياسة بل كان شاهدًا على فصل غاية في الأهمية في تاريخ ريادة مصر للبلدان العربية ورعايتها للقضايا الوطنية، إذ كان مقرًا رسميًا لوزارة الخارجية المصرية قبل أن تنتقل كما شهد أول اجتماعات جامعة الدول العربية التحضيرية.
شهدت جدران القصر على سعي مصر إلى توحيد المنطقة العربية وإنشاء كيان سياسي يوحد مطالب الأمة، ففي العام 1942 ألقى مصطفى النحاس رئيس الوزراء المصري -آنذاك- خطابا في مجلس الشيوخ أعلن فيه عن سعي مصر إلى عقد مؤتمر للقادة العرب لبحث أمر الوحدة العربية، وفي الأردن جاءت تصريحات الملك عبدالله الأول متوافقة مع المطلب المصري.
عُقدت داخل القصر أولى اجتماعات جامعة الدول العربية قبيل إنشائها بشكل رسمي إذ دعى الملك فارق في 5 سبتمبر 1942 كل من السعودية والعراق وشرق الأردن وسوريا واليمن لإيفاد مندوبين للتشاور حول موضوع الوحدة العربية، كما دعى إلى حضور ممثل عن الفلسطنيين، وعقدت داخل القصر أولى الاجتماعات التحضيرية للوحدة التي تمخض عنها إجراء “مشاورات الوحدة العربية” التي عقدت في الإسكندرية واستمرت لنحو أسبوعين.
وشهد القصر أيضًا في أعقاب ذلك اجتماع مصطفى النحاس رئيس الوزراء المصري -آنذاك- بكل من جميل مردم بك رئيس الوزراء السوري، وبشارة الخوري رئيس الكتلة الوطنية في لبنان -آنذاك- بعدما لاقت الفكرة ترحيبًا من عموم البلدان العربية، وكانت أهداف الاجتماع إنشاء كيان سياسي جامع يرعى مصالح البلدان العربية، حتى صدر بروتوكول الإسكندرية الرسمي عام 1944 الذي وقع عليه رؤساء حكومات مصر ولبنان وشرق الأردن وسوريا والعراق ونص على مبادئ إنشاء منظمة عربية موحدة، وأقيمت مراسم التوقيع عليه في جامعة فاروق الأول -آنذاك- (جامعة الإسكندرية حاليًا)، ثم جاء التأسيس العملي للجامعة رسميا في 22 مارس 1945.
لم يكتب للقصر أن يصبح مقرًا دائمًا لجامعة الدول العربية التي رعى أول اجتماعاتها التحضيرية، ولا متحفًا يروي تاريخ إنشائها لكنه تحول في أعقاب ثورة يوليو إلى متحفًا للعلوم، ثم ساءت حالة القصر فتم هدمه وتحول الى مول تجاري وجراج يحملان اسم مول وجراج البستان