خطيئة

كتب/ حمادة توفيق
بكت بشدَّةٍ ويُمناها على بطنها المنتفخةِ، تحوَّل بكاؤها إلى صرخاتٍ مشوباتٍ بوجعٍ مُبرحٍ، أطلقت الآهاتِ تلوَ الآهاتِ وهي تتمايلُ من ثِقَلِ بطنها ذاتَ اليمينِ وذاتَ الشمالِ، لم تتمكن قدماها من حملها فانهارت على الأرضِ كضنوِ سفرٍ.
– حسبي الله ونعم الوكيل، فعلها النذل ولم يهتم أو يسأل.
اكتشفت أن الكلام لن يزيدها إلا ألمًا فلاذت بالصمتِ، نظرت ناحيةً فإذا صورةُ زوجها المسافرِ في الخليجِ من ثلاثِ سنواتٍ متصلاتٍ تلمعُ في ضوءِ لمبةٍ توسطتْ الحجرةَ.
انهملت عيناها بالدموعِ، وطفقت تلطمُ خدَّيها كالثكلى.
– سامحني، لقد وطأتُ على شَرفِكَ يا رجلي بقدمينِ آثمتينِ، لَوَّثتُ سُمعتكَ وصِرتُ خائنةً زانيةً وضيعةً، اختبأتُ بجرمي عن الناسِ قاطبةً لئلا يُعرفَ سِرِّي، لكن هيهاتَ، ها هو السرُّ على وشكِ الذيوعِ والظهورِ.
رفعت يدها إلى السريرِ فتناولت هاتفها، همست في حشرجةِ صوتٍ:
– لن يجيبَ النذلُ كعادته، لكنها حيلةُ الضعيفِ وجهدُ المُقِلِّ، ولعلَّ وعسى!
وعلى غير المتوقعِ أجابها:
– نعم؟
– أنا سَألِدُ، فهذا شهري الأخيرُ، وآلامُ الطلقِ جَاءَتْ وتحيطُ بي إحاطةَ السِّوارِ بالمعصمِ.
– وما المطلوبُ مني يا هند؟
– أريدكَ معي، أنا وحيدةٌ وأخشى أن أموتَ وأنا أضعُ حملي.
– لن أستطيع، أنا رجلٌ لي سمعتي.
– نذلٌ جبانٌ.
– ليكن، لم أرغمكِ على شيءٍ ولم يجرِ ما جرى إلا برغبتك، ولقد نصحتك بإنزالِ الحَملِ فلم تنتصحي، فتحملي العواقبَ وحدك.
– ح ……
أغلق الهاتف، صرخت توجعت حزقت وفجأة سمعت صُراخَ المولودِ.
نظرت إليه بعينينِ باكيتينِ، كشفت عن سوأته فإذا هو أنثى، هزت رأسها في أسفٍ بالغٍ، نظرتْ أسفلَ السرير فلاحت لها حقيبةُ سفرٍ قديمةٌ مُهترئةٌ، ثم ..
خطرت لها فكرةٌ.
وغيرَ بعيدٍ منها وعلى بعد شارعين فقط من شارعها خرجَ جارها (حسانين أبو الفضل) من الحظيرةِ على حمارِهِ يسوقُ بهائمه متغنيًا، وهو يلقي على زوجتهِ الحسناءِ الواقفةِ على بابِ الحظيرةِ نظراتِ وداعٍ تأملُ في اللقاءِ المعتادِ.
كان الصبحُ قد أهلَّ بعد ليلٍ داجٍ مليءٍ بالأسرارِ والحكاياتِ، وكان الطريقُ خاليًا إلا من بعضِ المشاةِ والذاهبينَ إلى أعمالهم، وكان الوقتُ لا يزالُ مبكرًا، وكانت الشمسُ بالكادِ تداعبُ وجنةَ النهارِ.
توقفَ الحمارُ يلتقطُ عُشبًا على الأرضِ فنكتَ في ظهرهِ بعصاهُ الغليظةِ التي يحملها، وانطلق يسبُّ أُمَّهُ وأباهُ، فهرولَ الحمارُ خائفًا منهُ.
أحسَّ بألمٍ في أسفلِ ظهرهِ فابتسمَ، فالألمُ ذَكَّرَهُ بليلةِ البارحةِ، كانتْ ليلةً ساخنةً، جمعتهُ بزوجتهِ على فراشٍ وثيرٍ وتحت غطاءٍ التحفاهُ معًا، فاستعادا وبشكلٍ عمليٍّ ذكرياتِ شهرِ العسلِ من خمسةِ أعوامٍ، وطفقا يغرفانِ من بحرِ اللذَّاتِ ما لذَّ لهما وما طابَ.
– منك لله يا نعيمة.
ضحكَ ضحكةً تنبهَ لها المارةُ، فتوردَ وَجهُهُ خجلًا، لكن سرعانَ ما استحالت سعادته إلى همٍّ ثقيلٍ جثمَ على قلبه فانهملت عيناهُ بالدموعِ.
نعم، فليس كلُّ ما يتمناهُ المرءُ يُدرِكهُ، فحسانين ميسورُ الحالِ، بهائمٌ وأراضٍ ومالٌ وفيرٌ في البنكِ وبيتٌ كبيرٌ يعيشُ فيه هو وزوجته، بيد أن القدرَ حَرَمَهُ من نعمةِ الإنجابِ، خمسُ سنواتٍ مَرُّوا كالدهرِ وهو يتشوَّفُ لخبرٍ لعله يشنِّفُ سمعه وينزلُ على قلبه نزولَ الماءِ الزُّلالِ على ذي الغِلَّةِ الصاديِّ.
خمسُ سنواتٍ بالتمامِ والكمالِ منذ تزوجَ وهو يتلهَّفُ على طفلٍ يحملُ اسمَهُ ويزرعُ الفرحةَ في بيتهِ الكئيبِ، ويلبي رغبةَ أُمِّهِ العجوزِ في حفيدٍ طالَ انتظارها له، أمهِ التي كانت ولا زالت تطالبه بالزواجِ من أخرى لعله يتمكنُ من الإنجابِ.
تنهَّدَ تنهيدةً عميقةً كأنها نفثةُ مصدورٍ يئنُّ من وجعٍ مُمِضٍّ، ثم نظر إلى السماء مشرئبًا بعنقه، وأعاد الطرف بوجه يخيمُ عليه البؤسُ وتعلوه الكآبةُ.
واصلَ السيرَ حتى وصلَ إلى أرضه، وما أن نزل من على الحمار حتى سمع غير بعيد منه بكاءً رقيقًا كبكاءِ طفلٍ رضيعٍ، فتجاهل ما سمع.
– سيطيش عقلي من فرط التفكير في الإنجاب، فها أنا أسمع بكاءَ طفلٍ رغم أني بمفردي وفي أرض زراعية!
بيد أن البكاءَ عادَ فتكررَ مجددًا، فعلت الدهشة وجهه وظهرت في ملامحه كالشمس في رابعة النهار.
– لا، هذا البكاء ليس وهمًا.
تحرك صوبَ الصوتِ فإذا حقيبةُ سفرٍ ملقاةٌ بين نخلتينِ وإذا فيها الطفلةُ التي وضعتها بالأمسِ هند تبكي وتئنُّ.
تمكن منه ذهول كبير ألجمَ لسانه فلم يستطع الكلام، مد يديه يحملُ الطفلةَ فإذا هي عاريةٌ تمامًا، هزَّ رأسه في أسفٍ وحزنٍ كبيرينِ.
– لا حول ولا قوة إلا بالله، طفلةٌ ملقاةٌ في أرضٍ زراعيةٍ، تعاني الجوعَ وبردَ الشتاءِ، بأي ذنبٍ أُلقِيت؟
خفَّ إلى بهائمه مسرعًا فعقلها في مرابطها ووضع لها أعشابًا لتأكل، ثم وضعَ الطفلةَ على ربوةٍ عاليةٍ وامتطى حماره وتناولها فحملها أمامه، وانطلق إلى عمدة القرية يقص عليه ما حدث.
تطلع العمدة إلى الطفلة أَسِفًا:
– هذه اللقيطة لا أظنها من قريتنا، فالمرأةُ عندنا إذا حملت بانَ عليها حملها وأصبحَ من المحالِ أن تُخْفِيهُ عمن حولها، أما هذه فمؤكدٌ أنها نتاجُ خطيئةٍ تمت بمنأىً عنا.
وقف حسانين وقد خطرت له فكرةٌ:
– سأتبناها يا عمدة، فأنت تعلم أنني لا أنجب، ولعل الله ألقاها في طريقي لأنقذها من الموت المحقق، ولينعم بها عليّ بعد حرمانٍ طالَ.
نظر العمدة إليه وإلى الطفلة وقال:
– التبني محرم في الإسلام.
– ألم يتبنَّ النبي عليه السلام زيدًا بن حارثةَ حتى كان يدعى زيد بن محمد؟
– هذا قبل أن يحرم الله التبني بقوله سبحانه: (ادعوهم لآبائهم)، فصارَ يُقالُ لزيدٍ بعد هذا النصِّ زيد بن حارثة، وسمح الله للنبي أن يتزوج من طليقته زينب رضي الله عنها، ولو لم يكن التبني حرامًا لما جاز للنبي ذلك.
– فماذا نفعل بهؤلاء الأطفال إذن وهم لا حول لهم ولا قوة؟
– الدولة ترعاهم خير رعاية، أما التبني فلا يجوز.
هبَّ حسانين واقفًا فحمل الطفلة، وقال:
– أنت محق يا عمدة، سأذهب بها إلى مركز الشرطة وهناك سأروي ما حدث، ولا شك أنهم سيقومون باللازم.
وما أن خرج من عند العمدة حتى مضى بالطفلة إلى منزله، وكلماتُ العمدةِ تتردَّدُ في مسامعه.
وما أن رأتها زوجته وعلمت ما حدث حتى تعلقت بها تعلقَ الغريقِ بأسبابِ الحياةِ، رقت لها وحنت، وبكت عليها وأنَّت، وسرعان ما أخرجت لها ثديها فألقمتها إياه، والدموع تنهمل من عينيها كالسُّحِبِ المَوَاطرِ.
فما أن رأى حسانين منها ذلك حتى ابتسم، ونسي ما قالَ العمدةُ فلم يذكر منه حرفًا.