بقلم: محمود أمين
كان لي صديق عزته عليّ الدنيا فطلبته طلب الفاتنة، كما تتملك الرجل فهي تملك عقله وقلبه، فغاب على أثرها مدة لم أسمع عنه شيئا، ويبدو أني نسيت وجوده ولكنه في النفس حاضر، ثم جاء من بعد ذلك اللقاء، وجدته شاحب اللون، يطيل النظر في الأنحاء لا لذاتها ولكنه غياب لا يعرفه إلا العاشقون، فقلت له بعد ترحيب: لقد تبدل حالك يا صديقي، وانقلب بك، فلا أنت بين الأحياء تطلب طلبهم وتكد كدهم، ولا أنت بين الأموات ترقد رقدتهم، فإني والله أشفق على حالتك تلك فتكلم فديتك!
فقال بعد لجاجة وضيق فكان كلامه كأنه دمعة سحّت من سخونة العين طلبا للفرار.
(والله ما بي علة وما كان يخطر في بال أن يؤول حالي لهذا المآل، فإني كلما عرضت نفسي الماضية على نفسي الحالية؛ تذكرت كوبا أفرغ من الماء ليصب من فوقه الخمر صبا، فكنت من معاني النشاط والحيوية، وأنا اليوم من معاني النشوة والانتشاء، هو الحب يا صديقي.
ذهبت يوما إلى بلاد كيت وكيت، فرزقني الله فتاة؛ الفتنة من أقل أعوانها، وريعان الشباب يتمايل في قسمات وجهها، هي البيض المكنون كما قالت العرب، وهي السماء الصافية كما قالت الغرب، لو جئت تنظر لها تقاذف إلى عقلك الفكر وسبّحت طويلا وبسملت أكثر، ومن ثم يهيم بها قلبك فلا يبقي لك من حاجة في هذه الدنيا إلا هذا الوجه المنير، ولما تكلمت نطق قلبي على أثرها، وقال: أنا أحبكِ! قل لي بربكَ كيف تكون قصة أولها أنا أحبكِ؟ ولما دنوت رأيت في عينيها بريقا يشبه بريق اللؤلؤ ولكن فيه مسحة حزن يكاد ينطق من فرط البريق، فاقتربت أكثر وسلمت فسلمت، وإن صدري يا صديقي تنبض عروقه كأنها هي السكن والنصف الذي يكمل به نقصي ويتم الله به ديني، فأطلقت لهذه الفكرة خيالي وما أخصب فكر المحب العاشق!
ومن بعد لقاء وكلام…
قالت لي: إنك تلمس شيئا في قلبي، فطرت فرحا كعصفور خصته الشمس بشعاع من دفئها أيام الشتاء، ومن قصة كانت بدايتها قلب يتقلب في شدة الحب إلى خيالات المودة والارتباط، فقلت لها: رأيتك زوجا لي، وإني لأسعد الناس لو كنت هذا النصيب، فتبسمت بسمات فاترة باردة ولم تقل شيئا غير أنها غيرت هذا الموضوع وكفنته بأكثر من حديث، وأنا أجاريها حتى يكون في مجاراتي علاجا لتسرعي وإحراجي.
أخذت فؤادي في يوم كان مقداره ساعة بل قل أخذت عمرا في هذه الساعة، وسلبت روحي فأنا على هذه الصُّفرة من وقتها، بت من الوحدة كالجندي يدافع في غير أرضه، يدافع عن جسد بالٍ، وقد كانت الحياة بين يديه كالزهرة النضرة، أتُراها سارقة؟ هذه كلمة بسيطة في علم الأخذ، هي ساحرة نفث في فرحتي، وألقت علي تعاسة الدنيا، لم أشعر بثقل جسمي النحيل إلا بعد فراقها، ذهبتْ وتركتْ لي من خلفها ألف سؤال، وقد كان يغنيني سؤال واحد، تركتْني بين ضيق الأيام وكآبة النساء عند النظر إليهن، كيف يكون فيها معاني أنوثة ليست في الإناث؟ لا أتعجب فمن النساء من ليست من النساء إلا صفة.
ولقد غفوت في قولي يا صديقي عن أيامي التي قضيتها بين رضا عينيها وبسمات شفتيها، كانت كأيام آدام في الجنة قبل نزوله، كانت النفس جزلة فرحة كأنها بُشّرت بكل خير، لا أتكلم معها إلا وتشملني سعادة كبيرة، لا أحكي له القصة الرديئة إلا تُجملها بحسن إنصاتها، هي الأديبة وكنت أنا أحد سطور قصتها، هي الرسامة وأنا رقصة فرشاة على لوحتها، هي الروح وأنا معنى التراب فلقد عادت لملائكيتها السماوية وعدت لأرضيتي الطينية.
فلو كان سامع يبلّغ عني قولي؛ فقولوا لها لقد طال الانتظار يا حكيمة الزمان، لقد فتّت موج الوقت صخر الصبر، تعالي …)
فما أكمل كلمة -تعالي- حتى فاض الدمع من عينيه، وشهق شهقة، تمنيت بعدها لو عافاني الله من حب بنات حواء على ما سمعت من حديثه وما ترتب عليه.
#رسالة