أبريكيشن(2)

كتبت/ سالي جابر

اليوم أنا أقف في منطقة أخاف الرجوع عنها، أخشى التقدم فيها، أرهب السقوط والاستسلام، حائرة أتأهب الفشل؛ لكني لا أستطيع المغامرة، دائمًا كنت أنتظر التشجيع من أبي في كل شيء (المذاكرة، القراءة، الكتابة، حتى سماع الموسيقي)، وعندما فارق الحياة فارقت روحي معه، وكانت حياتي تقتصر على النوم، أمسك بجهاز تحكم التليفزيون عن بعد(الريموت) أُقلب به، لا أقف على قناة لأُشاهدها، لا يستهويني شيء، حتى شغفي بالقراءة قلّ وقلت معه قدرتي على الكتابة؛ بل أنني أيضًا لم أُدون كلمة واحدة في مذكراتي…. أدركت حينها أن الوقوف هنا راحة لي من الدخول في متاعب الحياة، ومن آلام التعلق بالأشياء: كنت عندما أقرأ رواية أتقاسم أحداثها أنا وأبي، ونتناقش فيها، وأكتب عنها كما أراها، ثم يمنحني أبي من مكتبته رواية أخرى؛ أما الآن فأنا عندما أصل إلى آخر صفحة أشعر بالحزن على انتهائها، دعك من أني لم أقرأها سريعًا – كما في السابق- فقد تصل مدة قراءتها إلى شهور، وتذكرت أني قرأت ذات مرة جملة للكاتب بول سويني تقول: “إذا شعرت وأنت تقلب الصفحة الأخيرة في الكتاب الذى تقرأه أنك فقدت صديقًا عزيزًا فاعلم أنك قرأت كتابًا رائعًا” هذا حالي دائمًا؛ لكن بعد وفاة أبي أصبحت أتعلق بكل شيء وكأنني أتمسك بالحياة مرة أخرى مع شخصٍ آخر، أو شيء آخر، لا أود أن أعيش وحيدة، لكني بالفعل وحيدة، شاردة، تائهة، زائغة عيناي لا تجذبني أشعة الشمس، ولا رائحة الثرى، لا أنتبه لنداء أمي، لا ألعب مع قطتي، الجلوس معى أضحى ممل، تركني الجميع بعدما فقدوا الأمل فيّ …
أشار المختص النفسي أحمد وبدأ بالحديث وقال: وكأنك تتحدثين عني، فأنا أيضًا أُعاني حالة من الخوف، والتفكير الزائد، أصبح كل شيء خلفي مختلفا، لا أود الذهاب إلى الأماكن التي كنا نحب زيارتها أنا وخطيبتي- رحمها الله- وإذا اضطررت إلى ذلك زادت نبضات قلبي، وارتجفت أصابعي، وتعرقتُ بغزارة، ولم أُكمل أي شيء، أصبحت جنديا في وسط المعركة بلا أسلحة لا أستطع الرجوع ولا المواجهة، تشتعل بيادر القمحُ في صدري، تُلهبني الذكرى، لا أود أن أمزق صورنا، ولا أستطيع النظر إليها، لا أقدر على التخلص من عاداتي معها، ولا يمكنني استكمالها، أخشى الارتباط بأخرى فأكون كاذب في حبي لها، أود أن أبدأ قصة جديدة لكني كلما نظرت إلى أخرى أراها في عيون خطيبتي، وأراني أتساقط من بين أضلعي، وأسقط في بئر العذاب الذى لا هوادة فيه، تذكرني أمي بأن العمر يجري من بين يدي ولابد من الزواج، وأنا خائف من حياة جديدة…
اسمي حياة عمري خمسون عامًا، لا تستغربون، فأنا محبة للحياة والضحك واللعب، الحياة كانت في عيني جميلة، كل يوم كنت أقابله بابتسامة النهار المشرقة، بلذة السعادة المنتشية، لا يعلم أحد عمري تحديدًا، فالجميع يرون أنى في العقد الثالث من عمرى؛ أما الآن أعاني الكثير من الأمراض، جذبني المرض إلى عالمه، شدني الخوف إلي مكامنه، كانت حياتي مع زوجي وأبنائي الثلاثة مبادلة الحب والرضا، كنا نعمل سويًا في المنزل وخارجه، فأنا مترجمة في إحدى مكاتب الترجمة، وزوجي مدرس لغة فرنسية، وابنتي الكبرى مرشدة سياحية، والصغرى في أخر سنواتها الجامعية، أما الوسطى مهندسة ديكور، خططنا لنسافر في إجازة قصيرة للنزة في باريس، وقامت ابنتي الكبرى بتولي الأمر وإعداد رحلة ترفيهية جيدة؛ وحدث أن الطائرة سقطت بنا وبعد فترة من الوقت وجدتُ نفسي وحيدة في إحدى المستشفيات، أعاني كسورا وكدمات، وفقدانا مؤقتا للذاكرة، وبعد البحث عنهم طويلًا لا أثر لهم، انتظرت ولكن دون جدوى، تحطمت الطائرة وتحطمت معها عائلتي؛ بل حياتي التي أعيش من أجلها، فلا فائدة من الحياة، لم أرغب في الموت، لكني أخاف الحياة، وأخشى الوحدة، وأرى عائلتي في كل مكان، رائحة الموت بجواري، وتنحت أحلامي جانبًا لتُفضي له مكانًا مريحًا.
(نظر إلينا المختص النفسي وبدأ يوجه لنا حديثه)، فقال:
لكلٍ منا منطقة تسمى ” منطقة الراحة ” وهي باختصار أننا عندما نُحبط أو نخشى شيئا نقف في مكاننا، لا نحاول الخروج بعيدًا حتى لا نفشل؛ لكن علينا دائمًا أن نعلم أن الجنين في رحم أمه المكان الأكثر أمانًا له، يأكل ويشرب ويتنفس دون عناء وبالتالي هي منطقة راحة له؛ لكن عليه أن يخرج إلى الحياة ليبدأ رحلة كفاح جديدة في عالم آخر، الحياة لابد أن تسير، فالحياة لا تقف على موت أحد، نحن لا يمكننا التحكم في الحدث؛ إنما يمكننا التحكم في ردة فعلنا تجاهه، هل تعلمون مدى الإنجاز الذي حققتموه الآن؟
هل تعلمون مما تعانون؟
إنه ( الكلب الأسود) الاكتئاب … المرض المعضل الذي لا يعني فقدان السعادة فحسب؛ بل هو فقدان الحياة ذاتها، الهروب من الواقع الأليم داخل دائرة أنت فقط من ترسم قطرها، لا يدخلها أخد غيرك تصطحب فيها فقط هلاوسك ومخاوفك، تخشى الخروج من تلك الدائرة، وأكبر إنجاز حققتموه جميعًا هو طلب يد العون.
انتهت جلستنا الآن، الحياة مقهى كبير نطلب منه ما نود، ثم نحاسب عليه، وأنت فقط من تدفع الثمن، تنفسوا هواء الأمل، وانتقوا من تجلسون معه….
نلتقى بعد ثلاثة أيام من الآن لنتحدث عن فكرة التقبل.
يُتبع…

Comments (0)
Add Comment