للخوف أبطاله

بقلم : حنان فوزي عبد الحافظ

يتهمني الجميع بالجبن، لا أنفك أسمع
“ أنت تخافين من خيالك”
“ عليك أن تُجمدي قلبك بعض الشئ”
“ما كل هذا الفزع.. تشجعي قليلًا”
لا تظلموني. لقد كنت يوما أشجع الجميع. لكن أيكم لم يكن معي يومها..

5 فبراير 1993. يوم عاصف أبت السماء إلا أن تصُب جم غضبها على الارض فيه.. لن أنسى هذا التاريخ يوما.
وقفتُ وسط مجموعتنا المكونة من أطفال العائلة أهتف بصوت مرتفع قوي كان يتعجب الجميع صدوره من جسد بهذا النحول -ولكن من قال أن الحنجرة امتداد للمعدة-
– سأدخل حتى لو فعلتها وحدي أيها الجبناء.
قلتها وأنا أشير إلى المبنى المهدم القابع أمامنا في هيبة.
كانت البداية عندما سمعنا حديثا عابرا عن مبنى مسكون يقبع على بعد بضعة شوارع قليلة من منزلنا، راح الجميع يحكي عنه أهوالا يرجف لها قلب الأسد في عرينة. وبالرغم من صعوبة إيجاد مسكن جديد إلا أن سكان البنايات المحيطة بهذا المنزل القديم آثروا السلامة و تركوا له الشارع كله حتى صار وحيدا منبوذًا. ولأننا عِصابة صغيرة تبحث عن المشاكل كان هو غايتنا وأحدث لُعبنا.
أجابتني ابنة خالي (ياسمين) بحروف مرتجفة:
– أنا سأصحبك يا حنان.
ليكن كنت أكيده من هذا. لم تفترق إحدانا عن الأُخرى يوما ولن يكون اليوم هو البداية.
نظرت لها بامتنان فتشبثت بيدي، لا أدري هل تبثني الطمأنينة أم تحاول أن تستاقها مني؟
رفعت عيني للباقين فأدار الجميع وجوههم بعيدا في صمت. مشهد البيت الجاثم من قريب وحالة الطقس المريبة فتت في عضُدهم جميعا فيما يبدو، حتى أخي قرر التراجع. ربما تذكر أنه هناك أُخرى بالمنزل لذا لا ضير من التضحية بواحدة.. يالشجاعته الفائقة!
شددت قبضتي الصغيرة على يد (ياسمين) وقلت بحسم -يفوق سنوات عمري التي لم تصل لأصابع اليدين بعد-
– ليكن هيا بنا..
تحركنا معا في صمت و هزيم الرعد يصُم أُذنينا.. يالها من ليلة أختارها القدر لمغامراتنا! لكننا لن نتراجع .
اقتربنا من الباب ببطء شديد.. كان الخوف يُكبل أقدامنا والرياح تعصف لترجف مفاصلنا فلا ندري هل السبب البرد أم الرعب؟
وصلنا إلى الموضع المنشود. كان أحدهم قد نصب لوحا كبيرا من الخشب يُخفي به الباب المُهترئ للمنزل . لكن لحسن حظنا – او لسوئه لا أدري- حركت الرياح العاتية هذا اللوح بعض الشئ فكشف عن الباب الذي بأسفله فجوة تكفي لمرورنا بقليل من الجهد.
ابتلعت ريقا جفا وأخرجت مصباحا كهربيا كنت قد اقترضته من والدي – قد يُسميها هو سرقة نظرا لأني لم أستأذنه لكني لم أكن أهتم للمسميات كثيرا-
أضأت المصباح وانحنيت ثم مررّت يدي وحدها عبر فجوة الباب آمله أن أرى ما بالداخل قبل المرور. لم أكد أفعل حتى سمعت صوتا عجيبا وشعرت بجسد عملاق يرتطم بذراعي ليعبر الفجوة ثم يلامس وجهي في طريقه مُحلقا لأعلى.
تعالى صوت صرخاتي ورفيقتي تبعها ضحكات شامتة من خلفنا وصوت ابن خالتي يهتف ضاحكا:
– كل هذا من أجل خفاش؟ .. يالكم من أبطال!!!
تجاهلنا عبارته الساخرة وضحكات الباقيين وتبادلنا النظر قبل أن تشد كلا منا يدها القابضة على يد الأُخرى ونخطو إلى الداخل.
***
الجو الخانق المقبض الذي يكتُم أنفاسك كمريض صدر في خماسين الربيع.
الظلام….
الظلام الذي لم ينجح المصباح الصغير في تبديد الكثير منه وتلاعبت الظلال بنا فرأيناها أشباحًا تُطل علينا من كل صوب.
رحت أُدير المصباح في المكان وأنا أتلفت حولي بذعر متحاشيه خيوط العنكبوت التي تتدلى بكثافة من أعلى. رفعت المصباح للسقف فإذا به كأبرع غزل تُخيطه سيدة عجوز لم تفعل في حياتها شيئا سوى أشغال الإبرة.
شعرت بانقباض قلبي فهربت بالإضاءة إلى الحائط.
هل هذه آثار حريق؟ نعم هي . هذا الغبار الأسود الثقيل والعلامات المشوهة السوداء لا يمكن إلا أن تكون بقايا محترقة.. عجبا لم يتحدث أحد عن نيران اندلعت بهذا المنزل!
بقايا الأثاث المتداع التي تُشعرك أنها تتخذ أشكال المقاعد أو المنضدة فقط حفاظا على كرامتها لكنك لو لمستها لحظة لأصبحت غبارا منثورا.
التصقنا بعضنا البعض أكثر ونحن نخطو للداخل وجاءني صوتها المرتجف:
– سنتحرك هنا قليلا. ثم نخرج وندعي أننا تجولنا في المكان كله.. أنا لن أدخل غرفا داخلية أو أصعد للطابق العلوي.
وافقتها وأنا أتصنع شجاعة أبت أن تظهر حقيقة:
– ليكن كما تريدين يا ياسمين.
لم أكد أُتم عبارتي حتى شعرت بها تسقط جانبي وصوتها يصرخ بإسمي فالتفتت لها مسرعة ووجهت المصباح إليها بيد وأنا أحاول جذبها عاليا بالأخرى. راحت تصرخ كالملسوع وتُحرك يديها أمام وجهها كأنما تطرد خطرًا مجهولا وعيناها الخضراوان كعيني القطط تنظر لي بفزع زادني أنا رعبا فهتفت:
– كفى.. كفى. لم يحدث شئ، لقد تعثرتِ فقط.
ساد الصمت لحظة قبل أن تجذب يدها من يدي وتنهض واقفه وهي تنفض الغبار عن ثوبها وبصوت بدا ثابت الجنان عن السابق قالت:
– ليكن.. دعينا نهبط للقبو.
حدقت في وجهها بدهشة. أي قبو؟! لم نسمع أي حكايات عن قبو. نقلتُ تساؤلي إلى لساني لكنها أجابتني بحسم واثق:
– كل هذه المنازل القديمة تحتوي قبوا بالتأكيد.
ما هذا الهدوء!! ما هذا الثبات وهذه الثقة!! شعرت أنها أصيبت بالخبال فهتفت بعزم ما في وقد فاق خوفي عليها فزعي من المكان:
– ماذا حدث لك؟ لا لن نذهب للقبو.. بل لن نبقى هنا وليقولوا ما يقولون سنخرج حالا.
قرنت القول بالفعل فجذبت يدها وأنا التفت صوب الباب لكن يدا قويه أمسكت بكتفي وسمعت صوتا عميقا يهتف:
– إلي أين ستذهبين؟!!.. هنا نهاية المطاف.
***
فتحت عيني لأرى الوجوه العديدة التي تحيط بي في قلق وصوت أبي يهتف:
– حذرناكم من مغبة هذه الألعاب الغريبة. هذه نتيجة تلك الشجاعة الزائفة أيتها الحمقاء.. لقد لحقت بكم بعد أن توجست خيفه من تجمعكم وخروجكم ليلا. و دخلت هذه الفيلا الغبراء لأجلكما ثم إذا بك تسقطين فاقدة الوعي لمجرد سماعك صوتي.
تعالت الضحكات من حولي فبحثت عيناي (ياسمين) بين الوجوه الشاخصه وتشبثت بيدها. فساعدتي على النهوض وهي تنظر لي قائلة:
– لا عليك يا حنان لقد أثبتنا أننا الأكثر شجاعة.
كنت أتطلع لعينيها الصافيتين ذوات اللون العسلي المائل للخضرة عندما تذكرت أنهما أكثر عمقا من هذا. أكثر عمقا بكثير.

للخوف أبطاله
Comments (0)
Add Comment