بقلم د. محمد منصور
– منّك لله ياعوض!
هتف بها عزت الشربيني بمجرد دخوله إلى القاعة الرئيسية لمعرضه السنوي، الذي يتوافد عليه كبار النقاد ومحبو الفنون التشكيلية، وجّه نظرة حانقة وعميقة لزوجته التي تعلّقت بذراعه وهي فى أبهى زينتها، وكأنما لتعلن للحاضرين أنه يخصها وحدها فترد بذلك عنه طوفان المعجبات اللآئي يتحلقن دوماً بالمشاهير، من ناحيته كان يعتبرأن طقوس الاستعداد التي فرضتها عليه لحضور حفل الافتتاح مضيعة للوقت شغلته عن وضع اللمسات الأخيرة للحفل، مما دفعه لإسناد هذه المهمة للقائمين على المعرض، أما عوض خادمه ومساعده فقد تحمل عبء تغليف اللوحات ونقلها من المرسم إلى المعرض، كانت من جانبها تلح على الاستفادة من جهود عوض في هذه الأمور التافهة، أكثر من مرة حاول إفهامها أن كل خبرات عوض لاتعدو صنع أكواب الشاى وفناجين القهوة إلى جانب تنظيف المكان الذي يتحرك فيه داخل المرسم، أما نقل اللوحات أو تغليفها فلاتدخل ضمن مواهبه.
كان قلبه يحدثه دوماً أن أمراً ما سوف يحدث يوماً، وأن خضوعه الدائم لرغبات سنية سوف يؤدي في النهاية إلى كارثة قد تهز مكانته، لكنها كانت تغضب دائماً وتتهمه بمحاولة التخلص من مرافقتها له ليخلو له الجو مع المعجبات بفنه.
فى كل عام كانت تثور نفس المناقشات السخيفة ، وكان يرضخ دائماً لإرادتها وينتظرها بالسيارة أمام ” الكوافير” حتى تنتهي من زينتها الكاملة وكأنها لوحة ستضاف إلى معرضه .
هاهو عوض يرتكب الحماقة التى لم يتوقعها أحد سواه ، منذ أسابيع كان ينظف أرضية المرسم وكان الحامل الكبير قد انتصب وقد شُد عليه قماش اللوحة تأهباً لتلقى لمسات فرشاته الساحرة، كان عوض وحده حين عثرت قدمه وأوشك على السقوط، فحاول التشبث بالمنضدة التي تتوسط المكان لكنها مالت بشدة فسقط مصطدماً بالحامل الكبير، ليسقط في النهاية أرضاً وقد تبعثرت حوله علب الألوان وتناثرت حتى غطّت اللوحة، وتبعثر ماعلى المنضدة من أدوات بغير نظام ، حاول عوض أن يعيد كل شئ لأصله لكنه فشل في أن يعيد اللوحة الكبيرة التي اصطبغت بأمشاج من الألوان التي سالت على القماش بغير نظام.
حين عاد عزت إلى المرسم صبّ جام غضبه على عوض واستبعد اللوحة التالفة .
– منّك لله ياعوض!
هاهي اللوحة التالفة الضخمة تتوسط القاعة الرئيسية ويلتف حولها كوكبة من النقاد وعشاق فن عزت الشربيني، منهم من اقترب منها لحد الالتصاق ومنهم من ابتعد عنها وقد خلع نظارته ووضعها فوق رأسه وأخذ يمعن النظر فيها، يهبط بجسده ويعلو محاولاً فك طلاسمها واستكناه غوامضها.
– منّك لله ياعوض!
لحظات وتبدأ الندوة التي يصول فيها النقاد ويجولون وسوف تكون الفضيحة بجلاجل حين يكتشفون أن عوض قد نقل اللوحة ضمن مانقل إلى المعرض وأن البقع والخطوط والألوان المتداخلة ليست أكثر من آثار الاصطدام المروّع الذي طرحها أرضاً.
ماالذي يجدر به أن يفعله؟!
هل يبدأ الندوة بالاعتذار عن الخطأ غير المقصود الذي دفع بلوحة مستبعدة بل لم تُرسم أصلاً إلى تصدر القاعة الرئيسية؟ .
هل يسكت معتمداً على فطنة النقاد وحسن تقديرهم للأمور؟..
لاشك أنهم سيسكتون عنها فيرفعون عنه الحرج.
أخرجته موجة دافئة من ترحيب الحضور وهمهمات المعجبين مماهو فيه من همّ، فانشغل برد التحايا وتوزيع الابتسامات حتى أفاق على صوت الجالس على المنصة وهو يدعوه لاعتلائها على حين تأهب أحد النقاد لإلقاء كلمته، أفرخ القلق عشرات الفئران تجوس في صدره فلم يعد يرى أو يسمع شيئاً مماحوله حتى أفاق على صوت الناقد الكبير وهو يحلل بشكل علمي متخصص اللوحة الرئيسية كما أسماها، لأنها تدشّن مرحلة جديدة من إبداعات الفنان الكبيرالذي من فرط ذكائه لم يعطها اسماً محدداً إمعاناً فى التجريد.
– منّك لله ياعوض!
أعاده للمشهد العبثي فاصل من التصفيق الحاد فأفاق على حديث طويل عن انسيابية الخطوط وبراعة توزيع الألوان ولامحدودية الأفق.!
صفّق الحاضرون طويلاً حتى كلّت أيديهم بينما سرت همهمات تطالب بكلمة من الفنان الكبير، قام متعثراً في خجله وقد جفّ حلقه فلم يجد على لسانه سوى كلمة واحدة.
– أشكركم.