رشا فوزي
المبجّلة
عندما أخبرتني عن مشاعر الحب المتقدة التي تكنّها لهذا الأجنبي القادم من أرض البدو الرعاة؛ أبصرت ظلال فاجعة وشيكة تلوح في الأفق.
ثم أيقنت من صدق حدسي عندما أعلمتني عشية أمس بنيتها للفرار معه والزواج منه. كانت ليلة دهماء؛ سعيت فيها للابتهال للإله تحوت عسى أن يسطع وجهه في تلك الظلمة الغاشمة فينير لنا طريق الهدى والخلاص، إلا أن الكلمات توقفت في حلقي تأبى الخروج؛ فأدركت أن آوان ذلك قد فات.
“نارميس” هي ابنة اخت ام، لكنها لي هي رفيقة طفولة وصبا، أكبرها بموسمي فيضان، وعلى الرغم من ذلك كنت أنا من يتبعها دائما كظلها؛
– هذه الفتاة كالمهر الجامح؛ كوني لها لجاما عزيزتي نيفار الحكيمة.
بهذا كان يطالبني الجميع، إنه واجبي المقدس، لقد باركني الإله بحكمته بينما تخلى عنها، أما أنا فلن أفعل.
في مهد الطفولة عندما كنا نمضي في لهونا، تلمع أجسادنا العجاف العارية ببراءتها تحت أشعة الشمس الحانية، إلا جسدها البض قد برزت نتوءاته قبل الآوان متحديا جميع القوانين في سفور غير مبال كروحها الطليقة، مهددا بفوران قريب كفوران النيل في موسم فيضانه جالبا أديمه الأحمر؛ مما دفع بأمها ستر جسدها مبكرا بالثياب ومنعها عن الخوض معنا، إلا إنها كانت تنجح دائما في التملص منها لتأتي إلينا غير آبهة بأي عقاب قد يُنزَل بها، تَعُبّ في صخب من أصناف لهو الصغار، مُلقية بملابسها في عين الشمس .
لم أكن يوما مثلُها، كنت أجنح إلى العزلة والتأمل، في ساحات اللعب أجلس بتحفظ في الزاوية؛ أرقبها تملأ الدنيا بضجيجها ومرحها كأوز ” الميدوم” عندما ُيطلَق له العنان. في سن مبكرة أدركت اختلافنا عن الأخرين؛ نحن سلالة كهنة رب الأرباب “أمون- رع” المعبود، يد الإله في الأرض وكلمته المسموعة، كان علينا دوما التطهّر، الترفّع، والتسامي على تلك المشاعر الدنيوية المنحطة المتاحة لسائر العباد؛ لنستحق حظوة الإله، ونكن أشعته النورانية المرسلة لخلائقه تهديهم سواء السبيل. لكن روح “نارميس” المتمردة الهائجة النهمة في حبها للحياة كانت تأبى دوما الانصياع لأوامر الكهنوت، والالتزام بقوانين المعبد؛ فتلاشت جميع أمال المبجل ” بتاري ” – والدها والكاهن الأكبر- في أن تؤول لها خدمة الرب كخليفة لأمها المبجلة ” تي” كبيرة مغنيات المعبد، وهو الذي كان يطمح أن تكون يوما إحدى صاحبات الرب المقدسات؛ لما لها من جمال وافر وذكاء لافت لا تخطئهما العيون والعقول، وقد تضاءلت أحلامه لها حتى اقتصرت على تزويجها من أحد كبار الكهنة ذوي الشأن في أقرب فرصة، في حين كنت أنا بديلها الطبيعي، استقبلت مراسم تطهرّي استعدادا للكهانة بجلد وشجاعة؛ من عملية ختان، حلق شعر رأسي وجسدي، الاغتسال في مياه بحيرة المعبد المقدسة مع نسمات الفجر الباردة يوميا، مع المصابرة والتفاني في التدرّب والتعلّم نهلا من العلوم الكهنوتية الشاقة. لقد أثبت جدارة بلا شك؛
– المبجلة نيفار هبة الرب للمعبد.
هكذا كان يتحدث عني الجميع؛ يتابعون سعيي الدؤوب بإجلال وإكبار، وكنت أنا أتابع “نارميس”، أتوقع منها بل أنتظر واتمنى أن تشاركهم إكبارهم لي، انبهارهم بي، واحترامهم، لكنها لم تكن تهتم!، ملتهية بعالمها البائس العابث المتردي للدونية والوضاعة؛ وضاعة الضعف البشري وضلاله، عالمها الذي تمحور حول ذلك الهمجي القادم من الصحراء، تتحدث عنه وقد تلألأت عيناها كنجوم سماء صافية في ليلة صيفية، وقد توهج محياها فصار بلون قرص الشمس ساعة مغيب. يهفو قلبي إليها، يتلوّى مضطربا بين أحشائي، حتى وقعت الطامة الكبرى على رأسي كالصاعقة عندما كشفت لي عن نواياها عشية أمس. لم تفلح صلاتي؛ قلبي الناقم الغاضب يدفعني بعنف لأكاشفها حقيقة ما يعتمل بداخله نحوها متحديا كل الأعراف متجاهلا كل المخاوف. غادرت صومعتي وقد تداعت على مذبحها مقاومتي لنفسي الشقية، هرعت إلى بيتها لأجدها تتسلل منه بلهفة مع تسلل خيوط الفجر الفتية إلى كبد السماء المظلم بوحشة، ناديت بأسى:
– نارميس؛ لا تذهبي.
جفلت والتفتت صوبي، لكنها هدأت عندما تبينت ملامحي، اقتربت مني بألفة وقد أشرق ثغرها بابتسامة عذبة، واضعة راحة يدها الناعمة الرقيقة على كتفي:
– نيفار العزيزة، لكني أحبه.
اشتد وجيب قلبي، واشتعل جسدي بلهيب الرغبة، اندفعت نحوها بشبق جنوني أحتضن جسدها ضاغطة عليه بقسوة بينما أغمر وجهها بقبلات مستعرة وأنا أهمس لها بأنفاس لاهثة مضطرمة، ونبرات مرتجفة من شدة الوَلَه:
– وأنا..أنا أحبك نارميس، أنا أحبك.
دفعتني عنها بقوة وغضب؛ غير مصدقة لما بدر مني، شعرْت ببرودة تلفحني وقد تسمرت في مكاني شاحبة، صفعتني نظراتها المصدومة قبل أن تمضي من أمامي. أجزم أني أبصرتها توشك أن تقول لي شيئا قبل أن تذهب، لكنها احجمت عن ذلك في النهاية، وتركتني في هدوء
رئيس مجلس إدارة جريدة القاهرية