بقلم / د. محمد منصور
مرة ثانية أعيد قراءة المجموعة القصصية ” الحب فوق هضبة الهرم ” للأديب العالمي الراحل نجيب محفوظ .
مجموعة من ثمان قصص، ثلاث منها تحولت إلى أفلام سينمائية ..
وأنا حين أقرأ لنجيب محفوظ فإنني أقف مسحوراً أمام بنائه لقصصه، وقدرته على التحكم في الأحداث وتوجيهها، وانتقاء الشخصيات ورسم ملامحها، وكأنه يهبها حياة فنشعر بها وبحركتها وبعالمها الخاص الذي رسمه الكاتب بدقة وبراعة، ونفخ فيه من روحه فاستوت شخوصه بيننا كائنات تسعى .
والحكاية عند نجيب محفوظ تشبه إلقاء حجر ضخم في النهر يبدأ من نقطة ثم تتشعب الحكاية وتمتد حتى تبلغ القصة القصيرة نحو خمسين صفحة كالدوامات التي يحدثها إلقاء الحجر في الماء، فلا تملك إلا أن تتابع موجاتها مشدوها ومنبهراً متسائلاً كيف يدير هذا الرجل هذه الحياة الكاملة دون أن يصيبنا الملل أو ننصرف عنها ؟!
بينما إذا زادت القصة الحديثة عن صفحة ونصف فإنك إما أن تقرأ منها طرفاً ثم ترجئها إلى وقت آخر وإما أن تنصرف عنها بالكلية !
ثم إنك تجد نجيب محفوظ في قصصه يخاطب كل المستويات الفكرية لقرائه، فأي نص من نصوصه يستمتع به من لاحظ له من علم كالحطابين في الجبال، أو العجائز حول نار المدفئة، أو ربات البيوت المتربعات على الكنب تماماً كمايستمتع به الباحث عن الحكمة، أو الفيلسوف فلكل نص عدة وجوه تقرأه كحدوتة بسيطة تصلح أن تكون فيلماً، أو مسلسلاً مسلياً، أو يثير أفكاراً فلسفية يجد فيها المفكر متعة عقلية لأنه يبحر من خلالها فينقلك إلى عالم فلسفي ورمزي، أو أفكار مثيرة للخيال والتأمل .
إنه يشرّح المجتمع ويغوص في قاعه ويضع أمامنا مرايا كثيرة لنرى أنفسنا من الداخل ونتعرف على مثالبنا وعوراتنا دون خطابة أو زعيق كما حدث في أهل القمة، والحب فوق هضبة الهرم، أو سمارة الأمير بل وفي كل قصص المجموعة دون استثناء . أو وهو يشرح لنا فلسفة التناسخ كما يؤمن بها الهندوس وصولاً إلى “النيرفانا” دون أن يضطر لاستخدام مصطلحات معقدة أو تراكيب غير مفهومة كما في قصة ” السماء السابعة”
إن مفهوم القصة القصيرة عند نجيب محفوظ مختلف عما نعرفه حديثاً من ضرورة الحذف والإيجاز والتلميح والتضمين والتكثيف مما يحول القصة القصيرة إلى منهج مدرسي للمذاكرة وليس للمتعة ..
رحم الله الكاتب الكبير وعوضنا عنه خيراً .