سلسلة حلقات
بقلم / حمادة توفيق
(الأولى) ..
عزيزي القارئُ والمتابع، لعلّ من أسبابِ اتجاهي لتسطيرِ قصةِ الحبِّ الرائعةِ التي ستطالعُ فصولها الآن، وجمعِ أطرافها المتفرقةِ المتناثرةِ بين كتبِ الرواةِ ومصنفاتِ المؤرخين، هو ما نراه اليومَ من خمودٍ للمشاعرِ وجفاءٍ طاغٍ سادَ القلوبَ، وانغماسٍ كبيرٍ في المادياتِ تحولنا بسببه إلى آلاتٍ بلا قلوبٍ ولا مشاعر، فإذا الحياةُ قد أصبحتْ قاسيةً جافةً لا تُطاق، افتقدنا في خضمِّ السعي فيها دفءَ المشاعرِ وعذوبةَ الإحساس.
(جميل وبُثينة)، تلك القصةُ الخالدةُ التي شهدَ على ميلادها العصرُ الأمويُّ، وتلقفها الرواةُ بالتدوينِ والرواية، وكتبوا فيها مصنفاتٍ عدةٍ ومؤلفاتٍ جمةٍ جعلتها في مرتبةِ غيرها من قصصِ العشقِ والهوى، كقصة قيس مع ليلى وعنترة بن شداد مع عبلة وغيرها من قصص الحبِّ الرائعةِ التي تستحوذُ تفاصيلها على القلوبِ والعقول، وتستهوي القرَّاءَ والكُتَّابَ لما فيها من التضحياتِ الكبارِ والأوجاعِ العظام.
فتعالَ معي عزيزي القارئُ نطيرُ على بساطِ الريحِ إلى أعماقِ الماضي المنصرم، وتحديداً إلى العصرِ الأمويِّ، ثم نطوفُ هناكَ بين الشوارعِ والأزقَّةِ سائلينَ عن جميلٍ وبُثينة، لنعيشَ لحظاتٍ من الدفءِ تُنسينا ما نكابدُ من نرجسيةٍ وما نعاني من ماديةٍ أفقدتْ الحياةَ معناها ومغزاها.
ففي العصرِ الأمويِّ وتحديداً في عهدِ الخليفةِ عبد الملك بن مروان أو الخليفة الوليد بن عبد الملك، حدثتْ قصةُ (جميل وبثينة) ..
كانت بثينةُ فتاةً من بني الأحبِّ، وهم من رهطِ بني عذرة، وكذلك جميل، كان من رهطٍ آخرَ من بني عذرة هم رهط عامر، وكان بنو عذرة يعيشونَ في الباديةِ شمالَ الحجازِ في وادي القرى الذي يقعُ على مقربةٍ من الطريقِ التجاريِّ بين مكةَ والشام، وهو وادٍ خصب، استقرتْ به تلك القبيلة، وكانت مشهورةً منذ العصرِ الجاهليِّ بالقوةِ والمنعةِ والشرف.
وقد دخلت بنو عذرةَ الاسلامَ في السنةِ السابقةِ للهجرة، وشاركَ أبناؤها في غزواتِ الرسولِ وفي الفتوحاتِ الإسلامية، وإلى بني عذرةَ يُنسبُ الحبُّ العذري، وهو نوعٌ من الوجدِ يستبدُّ بالعاشقِ فيسيطرُ عليه خيالُ محبوبته، ويظلُّ يفكرُ فيها ليلاً ونهارا، ممتنعاً عن العملِ والطعام، حتى يصلَ إلى درجةٍ من الهزالِ قد تفضى به إلى الموت.
حدث هذا للشاعر جميل عندما رأى بُثينة وهو يرعى إبلَ أهله، وجاءتْ بُثينة بإبلٍ لها لتردَ بها الماء، فنفرتْ إبلُ جميل، فسبَّها، ولم تسكتْ بُثينة وإنما ردت عليه، أي سبته هي أيضا، وبدلاً من أن يغضب أُعجبَ بها، وتطورَ الإعجابُ إلى حب، ووجد ذلك صدىً لديها، فأحبته هي الأخرى ، وراحا يتواعدان سرا، وكلما التقيا زادت أشواقهما، فيكررانِ اللقاء، حتى وصلَ الخبرُ إلى أهلِ بُثينة، وبدلاً من أن يقبلوا يدَ جميلِ التي امتدت تطلبُ القربَ منهم في ابنتهم رفضوها، وتوعدوه بالانتقام، ولكي يزيدوا النارَ اشتعالاً سارعوا بتزويجِ ابنتهم من فتىً منهم.
وتقولُ الحكاياتُ أن جميلاً لم يستسلم، بل راحَ يتحدى أهلَ بُثينة، ويهزأ بهم، ويهددهم منشداً :
ولو أنَّ الفاً دون بُثينة كلهم ..
غيارى وكلُّ حاربٍ مزمعٌ قتلي !
لحاولتها إما نهاراً مجاهراً وإما ..
سرى ليلٍ ولو قطعتْ رجلي !
كان جميلُ فارساً شجاعا، يعتز بسيفه وسهامه، فلم يتأثر حبه لبثينة بزواجها، ووجدَ السبلَ إلى لقائها سراً في غفلةٍ من الزوج، وعلم الزوجُ باستمرارِ علاقةِ بثينةَ بجميل، ولقاءاتهما السرية، فلجأ إلى أهلها وشكاها إليهم، فتوقفت اللقاءاتُ فترة، لكنها سرعانَ ما عادتْ أقوى وأشدَّ مما كانت.
ويبدو أن بثينةَ لم تكن تعبأ بما قد يفعله زوجها أو أهلها، فهم في نظرها من أرغموها على الزواجِ بمن لا ترغب، وعليهم أن يتحملوا وزرَ فعلتهم.
ولكن ما نوعُ تلك اللقاءاتِ المتكررةِ بين جميل وبثينة ؟ هل كانتْ لقاءاتٍ بريئةً كما يؤكدُ بعض الرواة ؟ وكيف نصدقُ تلك الرواياتِ وجميلٌ نفسه يؤكدُ لنا في أشعاره أنه كان يقضى الليلَ كله بصحبة بثينة، مضطجعاً بجوارها أحياناً لمدةِ ثلاثِ ليال، فإذا ما أسفرَ الصبحُ أو كاد، تشفقُ بثينةُ عليه، وتلحُّ عليه أن ينصرف، فيأبى معتزاً بسيفه وسهامه، ولكنها تلحُّ حتى ينصرف.
وتحكي الرواياتُ أنهما اضطجعا ذاتَ مرةٍ فأخذهما النوم، وفي الصباحِ جاءَ غلامٌ لزوجها يحملُ إليها اللبن، فرأى جميلَ بجوارها، فأصابه الفزعُ فجرى لينبئ سيده، وفي طريقه التقى بواحدةٍ من صاحباتِ بثينةَ عرفت منه الحكاية، فأسرعت تحذر صاحبتها، ودخلت على العاشقين فحذرتهما، واستطاعت وبثينة أن تقنعا جميلاً فنام، ووضعتا عليه من الوسائدِ والفرشِ ما أخفاه، واضطجعتْ صاحبةُ بثينةَ إلى جانبها وتظاهرت بالنوم، فلما أقبلَ زوجُ بثينةَ وأبوها وأخوها لم يروا جميلاً بل رأوا المرأتين، فانصرفوا خجلين، وقضى جميلُ يومه مع بُثينة.
وحكاياتُ بُثينة مع جميل كثيرة، وهى تجعلنا نتوقف لنتساءلَ : أىُّ نوع من النساءِ كانت ؟ هل كانت تحبه حقاً ؟ أم أنها كانت أكثر ولعاً بأشعاره عنها خاصة وقد ذاع صيت تلك الأشعار حتى وصل إلى أولي الأمر من بني أمية ؟
ولنرَ كيف يصفها والد جميل، وهو يحاول أن ينصحه بالابتعاد عنها :
يابنى حتى متى ستبقى في ضلالك، لا تأنفُ من أن تتعلقَ بذاتِ بعلٍ يخلو بها وأنت عنها بمعزل، ثم تقومُ إليك فتغرُّكَ بخداعها وتريكَ الصفاءَ والمودة، وهي مضمرة لبعلها ما تضمره الحرة لمن ملكها، فيكون قولها لك تعليلاً وغرورا، فإذا انصرفتْ عنك عادتْ إلى بعلها على حالتها المبذولة.
وتؤكد بعضُ الرواياتِ أن جميلاً كان مستهتراً ماجنا، وبعضها الآخرُ يؤكدُ أنه كان عاشقا، نصحه أهله بالابتعاد عن امرأةٍ متزوجة، وهددوه بأن يتبرءوا منه، ولكنه لم يستطع أن يبرأ من حبه لبثينة.
ويُروى أن رجلاً احتالَ على جميلٍ كي ينسيه حبه لبُثينةَ فزين له سبعَ بنات، فكن يتصدين له متبرجاتٍ ويحاولنَ التقربَ منه، ولكنه فطن للحيلة، وصد عنهن جميعا، وراح ينشد :
أيا ريحَ الشـمالِ أما تريني ..
أهيمُ وأنني بادي النحولِ !
هبي لي نسمةً من ريح بثنٍ ..
ومني بالهبوبِ إلى جميلِ !
وقولى يا بُثينةَ حسبَ نفسٍ ..
قليلكِ أو أقلُّ من القليلِ !
وقيلَ أن أهلَ بُثينة شكوا جميلاً إلى الخليفة فأهدر دمه، واستدعى بُثينة ليسألها فكان بينهما مزاح.
ويسمع جميل بأمر إهدار دمه، فيفرُّ إلى اليمنِ ويلبثُ بها فترة، ثم يعودُ ليجدَ أن أهلَ بُثينة قد رحلوا إلى الشام، ولا يثنيه ذلك عن عزيمته، فيرحلُ وراءهم، وهناك يلتقي بِبُثينة عدةَ مرات، ثم يصيبه اليأس أخيراً فيشد رحاله إلى مصر، ويظلُّ بها فترة يبكي حبه، وينشدُ الأشعارَ في الحنينِ إلى أيامه مع بثينةَ وشوقه لها حتى يموت بمصر ..
لكنَ السؤالَ المهمَّ : من هو جميلُ وما نسبته ؟
جميل بن معمر، هو جميل بن عبد الله بن مَعْمَر العُذْري القُضاعي، ويُكنّى أبا عمرو (ت 82 هـ/701 م).
هو شاعر ومن عشاق العرب المشهورين، كان فصيحاً مقدماً جامعاً للشعرِ والرواية، وكان في أول أمره راوياً لشعرِ هدبة بن خشرم، كما كان كثير عزة راويةَ جميلٍ فيما بعد.
لقب بجميل بثينة لحبه الشديد لها.
إذن فاسمه جميل بن عبد الله بن معمر العذري، وُلدَ سنة 659 في الجزيرة العربية، وتُوفيَ ( 82 هـ/701 م) في مصر إبانَ ولاية عبد العزيز بن مروان، فجنسيته أموية، وأُطلقَ عليه (جميلُ بُثينة) لقصةِ الحبِّ التي ذاعت وانتشرت بينه وبين معشوقته، ومن أبرزِ أعماله التي وصلتنا ديوان شعره.
نسبته إلى عذرة، وهي بطن من قضاعة من شعراء العصر الأموي.
وكان جميلاً حسنَ الخلقة، كريمَ النفس، باسلاً، جوادًا، شاعرًا، مطبوعًا، مرهفَ الحسِّ رقيقَ المشاعر، وصاحبته بثينة وهما جميعًا من عذرة، وكانت تُكنى أمّ عبد الملك، والتي انطلق يقول فيها الشعر حتى وفاته.
ومن ذلك قوله (مشطور الرجز) :
يا أُمّ عبد الملكِ اصرميني ..
فبيّني صُرمكِ أو صليني !
وسببُ شهرته أنه افتتن ببثينة بنت حيان بن ثعلبة العذرية، من فتيات قومه، وهو غلام صغير، فلما كبر خطبها من أبيها فرده وزوجها من رجل آخر، فازداد هيامًا بها، وكأن يأتيها سرًّا ومنزلها وادي القرى فتناقل الناس أخبارهما.
وكانت قبيـلـة عُذرة – ومسكنها في وادي القرى (العلا) بين الشام والمدينة – مُشتهرةً بالجمال والعشق، حتى قيل لأعرابي من العذريين : ” ما بال قلوبكم كأنها قلوب طير تنماث – أي تذوب – كما ينماث الملح في الماء ؟ ألا تجلدون ؟
قال : إنا لننظر إلى محاجر أعين لا تنظرون إليها.
وقيل لآخر فمن أنت ؟ فقال : من قومٍ إذا أحبوا ماتوا.
فقالت جاريةٌ سمعته : عُذريٌّ ورب الكعبة.
عشق جميلُ قولَ الشعر، وكان لسانه مفطورًا على قوله، يقال أنه كان راويةً لهدبة بن خشرم، وهدبة كان شاعراً وراويةً للحُطيئة، وهو أحد الشعراء المخضرمين.
قصدَ جميلُ مصرَ وافدًا على عبد العزيز بن مروان، بالفسطاط، فأكرمه عبد العزيز وأمر له بمنزل، فأقام قليلاً ومات ودُفِنَ في مصر، ولما بلغ بثينةَ خبرُ موته حزنت عليه حزنًا شديدًا وأنشدت (ولا يُحفظ لها شعرٌ غيره) :
وإن سُلُوّي عــن جـميلٍ لَسَـاعةٌ ..
مـن الدهـرِ مـا حانت ولا حان حينها !
سـواء علينـا يا جميلَ بـن معمَرٍ ..
إذا مـت بأســاءُ الحيــاةِ ولينُهــا !
#يُتبع