منزل تميم منزل كريم
بقلم الأستاذ المرحوم/ عمار التيمومي
متابعة عبدالله القطاري من تونس
كتب الأستاذ عمّار التّيمومي رئيس جمعية قدماء كلية الآداب والعلوم و الفنون و الإنسانيات بمنوبة رحمه الله المقال التالي بعد زيارته لمدينة منزل تميم
《بدايةً وصدقًا ما أعسر أن تكتب عن مكان أنت على يقين من أنّ كلّ حروف اللّغات لا تسع بعضا من كرمه مهما تلوّن الكلام وتشكّل الاشتقاق .. ثمّ كم هو مربك أن تشهر قلمًا بسيطًا في وجوه أساطين القلم والفكر والإبداع.. فمنزل تميم من المدائن التي تعرفها حدّ الالتحام والتّماهي قبل زيارتها.. أمّا إن أنت رأيتها فحاذر على نفسك من الذّوبان والتّلاشي .. يبلغها قاصدها من مدينة نابل عبر محطّة سيّارات أجرة متواضعة والطّريق إليها ضيّقة هي أشبه بمسلك فلاحيّ متروك وكأنّك لا تقصد تلك المدينة الجوهرة ولتميم أصول أغلبية وفرع زيتونيّ وأقدم معهد ثانوي بتونس وشغف بلا نظير بالمعارف ممّا أسهم في تنشئة جيش من الأقلام وأهمّ موظّفي الإدارة التونسية فقها وقضاءً وضبّاطا وجامعةً وأدبًا وفكرًا تنويريّا عطف قلوب أبناء الفلاّحين والبحّارة على ضنى التّعلّم والتّفوّق فمنها تخرّجت كتائب من الجامعيّين وفرق من المربّين الأفذاذ والمهندسين والأطباء والمحامين والنشطاء بمختلف القطاعات..
تقيم هذه المدينة العريقة في الجنوب الشّرقيّ لولاية نابل وقد توسّطت لآلئ ثلاث هي قليبية والهوّارية وقربة ولكلّ منها في هوى البحر شؤون وحكايا يكنزها العشّاق وبها يباهون.. تصل مدينةً هادئةً مقاهيها ضيّقة وقليلة فالنّاس هناك منصرفون إلى أنشطة الفلاحة التي تلتهم أغلب وقت يومهم ولا تنتهي وهي بالكاد تسمح لهم بسويعات يخلدون فيها لهجعة الأجساد المتعبة بعد أن انتشرت تسعى في نَواح فسيحة ومروج كريمة..
أرض منزل تميم تنافس البحر كرما وبهاءً إذ تمتدّ فيها حقول الزيتون ومزارع الخضر الورقية خاصّة والمواشي هناك تنعم بأعشاب الحقول وسياسة أهل طيّبين يقسمون جهدهم بينها وبين أبنائهم وأشغالهم في أرض معطاء وتحت سماء مدرار . يُبكر التّميمية في همّة إلى مناشطهم المختلفة وجوههم مشرقة وأصواتهم تصدح إن هي ضحكت أو تندّرت يحضنهم بحر يسرق صفاءه من عيون نسائهم وكرمه وهدوءه من سواعد رجال أشاوس وجباه شامخة لا تذلّ إلا لجهد يبتغون به تحقيق معنى لحياتهم فترسم أقلامهم على وجه الدّهر سيرًا مشرّفةً يفخر بها الصّحب قبل الأولاد والأحفاد.. سرعان ماتسخن جبينهم فيختصمون أو يُخاصمون إلا أنّه حثيثا ما يرتدّ إليهم هدوؤهم فتشرق الأفضية بضحكاتهم الهدّارة.. يُعنون بأحوالهم عناية مهوسة ويُقيمون أوزانًا لتوازنهم العائليّ ويبسطون لضيوفهم أياد كريمة بلا ضفاف. هم غرس بهيّ ضاربة عروقه بكلّ الأعماق وفروعه خفّاقة في سماء تحنو على الأديم والبحر على حدّ السّواء فيزهر ورودًا فاتنة وثمرًا لذيذا مفيدا..
إنّ زائر هذه المدينة تُشرع نفسه على الامتلاء غذاءً بيوليجيا مليحًا والرّوح منه تنعم بعطاء الطّبيعة براحتيها الماء والترب أمّا النّسائم فالبحر ناسجها برفقة أهل العقل من بني التّميم فيصيب السّائح وفادةً فردوسية ينتجع فيها الجسد على رمال فضّية بالغة الأنس ويطرب فيها العقل لرفعة ما يفيد من معارف بمجالسة رجالات أفذاذ تُبحر عقولهم في صمت رصين وتصيب من بحورالعلم صيدا وفيرا أما الرّوح فهي بين هذا وذاك راقصة تنهكها اللّذائذ فتصطفي من الأنغام والأشعار ورائع الآثار مابه تثمل وتترنّح هزجة مالم تغادر منزل تميم..
ما أكثر ما تهواها أولى المراتب رياضةً وتسوّقا وتجوالاً وألفةً والنّاس مغتبطون ضأنهم الأفضل وسوقهم الأبرح وبحرهم الأنشى وسماؤهم الأشسع وتاريخهم الأعتق وأرضهم الأنجب وقلوبهم الأرحب ومع ذلك تمشي أخفافهم على أرض في رصانة من يظلّ يطلب المعالي بتُؤدة وصبر..
تدعونا الخالة ليلى على مائدة تنوّعت أطباقها إلا أنّ أشهاها يظلّ طبق الجلبّان بالخُرشوف [القنّارية] ولحم الضّأن .. كانت قد مرّت بالصّباح بالسّوق المكزية لتقتني من مجزراتها الشّهيرة قطع لحم ضأن وربطة خرشوف وكيلوغراما جلبّانا وفاكهة وأفاويه وفلفلها العجبب يدعونه starter يتّخذ له هيئة الفلفل اللّطيف بحجمه الكبير إلاّ أنّه لاذع لادغ من فرط حرارته..
دلقت بقدرها النّحاسيّ زيتا قطفت فيه قطع بصل وأوقدت تحته نارا بألسنة حمراء وصبّت قطع اللحم وما عجنته من حبات الطماطم الأربعة وحفنتي جلبّان وقرصة فلفل أسود وقرصتي كركم وقرصة ملح وملعة من مهروس الفلفل الأحمر وشرعت تحرّكها في لطف بملعقة من عود وما إن كثرت شكواها وتشتشاتها حتى سارعت بإطفاء لهبها بمقدار من الماء تجاوز موجه المكوّنات بالقدر وحال غليان القدر ثانية تضيف قطع جوف الخرشوف وقد شجّبتها من الورق المحيط والشّعيرات الباطنية وكانت شديدة الحرص على معالجتها بماء اللّيمون حتى لا تتأكسد وتفقد لونها الثّلجيّ وتحرّك ما بالقدر وتنتظره حتى يطفوَ عليه زيته وقد قلّ ماؤه وفاحت من القدر روائح شهيّة تصدم صبر الصّائم وتسيل من لسانه لُعابًا عزّ في حلوق استبدّت بها الرّمظاء … آه يا خالة ليلى سامح اللّه يديك الصّناعين وجازاهما على كرمهما..》