كتب / وائل صلاح الدين
غريبة حقاً هذه الشجرة ، شجرة عتيقة أمام دكان عم (عبده شلاطه) ، الذي علق عليها لافتة كبيرة مكتوب عليها (فلافل عم شلاطه ….. بنقدمها للناس من غير ألاطه) ، و قد قام أطفال الشارع بالتعديل على اللافتة و إضافة جملة تحت كلمه فلافل مابين قوسين (أقراص منع الفهم) ، ومع ذلك لم يحزن عم شلاطه أو يكتئب ، على العكس أعجب بالتعبير الذى عبر به القلة المنحرفة من أطفال الشارع عن الفلافل و أضاف على اللافتة هو الأخر (صنع فى مصر) ، حظ قولوني العاثر قد جعلني من عشاق الفلافل ، و جعل ترددي على الدكان أصبح شبه يومي ، و فى طريقى أسلم على الشجرة العتيقة ، عشت ذكريات كثيرة مع هذه الشجرة منذ الطفولة ، أفلام الكارتون القديمة سيطرت على عقولنا و نحن صغار فجعلتنا نرى الحياة فى كل جماد حولنا ، طالما كنت اخاف منها و من فروعها و من جذعها الذى إتخذ شكل ساحرة عجوز شمطاء فاقدة لعصاها الطائرة ، كنت أتخيل عيونها و انفها و فمها بدقة ، و تخرج الفروع من رأسها كرأس ميدوسا تنظر إلي الناس من حولها و تراقبهم ، أما الأن ، فقدت الشجرة بريقها و زحف على غصونها الزمن ، أشعر فيها بشىء غريب ، أشعر إنها أفضل مثال للبقاء والمقاومة فى أسود الظروف التى تمر بها فى مراحل اليوم المختلفة ، من دخان زيت الفلافل إلى الزبالة التى تلقى كل يوم عليها ، وطبعا ناهيك عن (مرزوق المزنوق) إبن عم حنفى بتاع الكبدة الذى أصبح متخصص هو وشلته فى فتره المساء والسهرة فى ان يقوموا بري الشجرة بطرق غير شرعية ، وعندما يظبطهم عم (عبده) متلبسين بحاله فك زنقة جماعية على الشجرة يتلفظ بألفاظ لا تليق و يعدو خلفهم و هو يسب ويلعن إلى أن يصل لعم (حنفى) ويتشاجر معه على حال إبنه وأصحابه “البايظين” ، كل هذا والشجرة تقف صامدة فى شموخ ناسك بوذي انفصل عن العالم المادي دون أن يهتز لها فرع واحد إعتراضا على ما يحدث ، وفى صباح يوما ً من الأيام التى كان الأرق فيها زائرا ً دائما ً لأحزاني الليلية ، كنا قُرب الخريف حين سقطت منها ورقة أمامى وأنا أقف منتظرا الفلافل لكى تطل علينا ، وجدت نفسى أنظر إلى الشجرة بنصف عين ناعسة وإلى الورقة ، فكرت فى الشجرة و فى حالها ، صحيح أنها قد سقطت منها ورقة لكنها ماتزال تقف بكل شموخ وهى واثقة من أن مازال هناك الكثير من الأوراق ، واثقة ان طالما مازالت هناك شمس تشرق ومياه ترويها – بغض النظر عن مصدرها – ومازال هناك هواء ومازالت العصافير تبنى عليها أعشاشها ، إذا فهناك أمل ، لا يهمها أن الخريف قد إقتراب ، أى أن وقت موت أوراقها إقترب ، صوت طاسة الزيت إختلط بهدير ماكينة الفلافل فى الخلفية حتي هيأ إلي ان ما سمعته مجرد هزيان حتي تكرر مرة أخري “لا … لا ، الخريف زى الموت عندكم يا بشر بياخد الورق لكن مش بيقدر ياخدنى معاه ، تمام ذي ما الموت عندكم ما بياخد الروح لكن مش بيقدر ياخد الجسد” ، نظرت إليها فى ذهول ، أعرف ان رائحة الفلافل ترفع مستوى هرمونات السعادة فى جسدي و لكن ليس لهذه المرحلة المتقدمة التى تجعلني أسمعها ، إلتقت أرواحنا فى الفضاء السرمدي على موسيقي هدير ماكينة الفلافل فى الخلفية ، فلم أشعر بنفسي إلا و انا أتجاوب معها ” يفيد بإيه الجسد من غير روح؟” ، رأيت إبتسامتها على احد الغصون و هي تقول “أنا واثقه من إن الربيع هو جنتى وببقى مطمنه أنه لازم هييجى بعد ما الخريف ياخد روحى ، ويرجع هو يرد لى الروح تانى ويرجع لى أوراقى وشبابى ويخلينى أرجع تانى أستقبل الدنيا والحياة من جديد ، أنا عدى عليا سنين كتير كل سنة لما بيجى الخريف مش بخاف وببقى مطمنه أن الربيع مسيره ييجى ، والفرق بينى وبينكم أنتوا يا بشر ، إنكم ماعندكوش غير خريف واحد بس و ما فيش ربيع تانى ييجى بعده ،إنتوا برضه خريفكم ليه مقدمات. وأوراقكم اللى بتقع منكم وأنتوا مش حاسسين هى الأيام اللى بتقع من شجرة عمركم وأنتوا مش داريين بيها.”
إنها على حق فى كل ما تقول ، نظرتها الفلسفية فى الحياة اثارت مشاعري ، بالرغم من كل ما تعانيه الشجرة من ذل و هوان ، بالرغم من الجروح الميقة التى تسبب بها كل من أراد ان يكتب إسمه على الشجرة بآلة حادة كتذكار لإنتصار وهمي يخلد إسمه فى تاريخ الشارع ، بالرغم من الغصون التى يقطعها (عم عبده) كل فترة مستعملا إياها كفحم للشيشة ، بالرغم من كل عوامل التعرية علي مر السنين التى عاشتها الشجرة ؛ إلا انها شامخة غير مبالية ، تأملت ورقة اخرى تسقط من على احد الأغصان و تطايرت بعيداً ، اتبعتها بنظرى و هي تطير مبتعده عنا و كأنها تسبح فى السماء ، سمعت الشجرة مرة اخرى و كأنها تقرأ افكارى “أنتوا الدنيا واخداكم ومش حاسيين بحاجه ولا عارفين حاجه ، انا واقفه أشوفكم كل يوم ، براقب كل واحد فيكم ، مش عارفين أن الخريف جي مهما حصل ومهما حاولتوا تمنعوه ، ولازم يبقى وراه ربيع ، لكن تفتكر ربيعكم هيكون جنه تعوضكم عن اللى أنتوا شايفينه ولا هيكون نار تعذبك أكتر؟” سمعت كل كلمة قالتها وأنا أفكر فيها ، وظل السؤال الأخير يتردد فى رأسى ، أفكر فيه إلى أن أعادنى من أفكارى صوت (عم عبده) الذى إختلط بصوت الزيت المقلى وهو يقول “جرى إيه يا هندسة إنت بتكلم نفسك ؟ إنت ملبوس ولا إيه؟ اللهم أحفظنا يا شيخ ، يا عم إمشى هو أنا ناقص مجانين على الصبح ، إنت إيه أسيادنا العفاريت وصلوا لك ، بقولك إيه خد بعضك وأمشى من هنا ، الفلافل مش ناقصه عفرته”. أخدت منه الفلافل وأنا أفكر فى كلام الشجرة و مضيت فى طريقي ، و كلام الشجرة وسؤالها الأخير مازال يتردد فى عقلى ، وفى الطريق قابلت (مرزوق) وشلته وهم ذاهبون صوب الشجرة ونظره عيونهم تدل على تصميم على ري الشجرة فى وضح النهار وأمام (عم عبده) فى عملية تحدى رهيبة بعد العلقة التى نالوها منه أمس. ومن بعيد سمعت صوت (عم عبده) وهو يصيح بأعلى صوته “بتعملوا إيه يا أولاد الـ(…..).” نظرت إليه فوجدته اخد عصي من المحل وخرج خلف العيال وهم يعدون أمامه و(فشتهم عايمه) بعد ما حققوا مرادهم وإنتقموا منه ومن الشجرة التى ليس لها ذنب فى أى شىء ، و التى مازالت شامخة ، منتظرة الربيع ، نظرت إليها و على الإنتعاش المقزز الذى حدث لها بعد جرعة الري المكثفة التي نالتها و مضيت في طريقي و أنا أفكر فيها ، و في الخريف.