القطار

كتب / وائل صلاح الدين
كان صباح يوما ً من أيام الخريف فى بداية عام دراسي جديد فى الجامعة ، و قد بدأت علامات الشتاء فى الظهور علي إستحياء حينما دخلت محطة قطار سيدي بشر الشامخة ، احاول جاهدا ً ان أصل إلى طرف الرصيف وسط الكتلة البشرية الهائلة التى انتشرت على الرصيف ، حاولت إختراق الحشود اللانهائية بنظري قياسا للمسافة التى احتاجها للوصول لطرف الرصيف من اجل فرصة أفضل فى فيلم صراع فى المحطة الذي سأشهده بعد قليل ، بدأت الأمطار تتساقط فى خفه ، نظرت إلى الرجل الذى بجوارى فوجدته رجل عجوز إنحني ظهره من حمل الزمن فألقي بحمل جسده على عصا سوداء يتكىء عليها ، رأسه الأصلع يلقي بقطرات المطر على حواجب كثيفة تلقي بظلالها على عينين جاحظتين كعين النسر ، انتشرت التجاعيد فى وجهه النحيف كاشفة عن عمره المديد ، يرتدي نظارة طبية فقد صاحبها النظر ثلاث مرات على الأقل لتكون بهذه السماكة ، سألته فى هدوء عن تأخر القطار و هو ينظر إلى الاتجاه الذي سيأتي منه القطار منتظرا ً فرجا ً من الله و نصر قريب ، نظر إلي الرجل من خلف نظارته ثم نظر إلى شريط القطار فى لا مبالاه ، تنحنحت فى حرج و سألته مرة اخرى و انا أضع يدي على كتفه لألفت انتباهه ، ضاقت عيناه فى نفاذ صبر هو يرد بعصبية ملحوظة “نعم يا سيدي عاوز ايه؟”.
عادة لا احب ان اتبادل الحديث مع كبار السن خاصة من قد حباهم الله بضيق الخلق و الغير كاظمين للغيظ ، تحاشيا ً لصراع الأجيال الذى لا ينتهي فى صالحي دائماً ، تابعت كلامي فى اختصار “هو القطار بقاله كتير مجاش ولا ايه؟” إتسعت عيناه بعصبية فإزدادت نظرة النسر رعبا ً ، خرج صوته نحيفا ً مكتوما ً من أنف معقوف تضغط على مخارج الحروف منذ عقود، لعن (أبو) القطار و (أبو) محطة القطار و عائلة هيئة السكك الحديدية كلها ، قطعت جملته خوفا من أن تطولني انا و عائلتي لعناته فى بحر الظلمات الذى خرج من بين شفتيه و انشغلت بالنظر إلى غياهب ما وراء شريط القطار ، حاول مد حبال التواصل بيننا و بدأ يقص علي تاريخ القطارات و مواعيدها منذ بدأ الخلق ، مرت ربع ساعة أخرى و بدأت الأصوات من حولي تتشابك بين لعنات و استغفار عن سيئات ارتكبناها و لم نرتكبها بعد ، كانت الحشود فى تزايد مستمر حتي لم يتبق على الرصيف موضع قدم ، و مع هذا العدد الهائل كان كل خوفي ألا يتحملنا الرصيف فينحني مثل ظهر الرجل العجوز ولن يجد العصا التي يتكىء عليها ، و من بعيد سمعنا صوت القطار ، دوى صوت صافرته المميزة فساد الصمت كمن أطلق رصاصة فى الهواء لإسكات الحشود فى ميدان عام ، دوى صوت الصافرة مرة أخرى و القطار باد فى الأفق كالسراب يراه الناس من على المحطة يسير فى هدوء مستفز ، رائحة دخان الوقود امتزجت برائحة عرق الحشود التى لم تستطع الامطار الخفيفة تطهيرها ، تقدم القطار ببطىء و هو يستعد لدخول المحطة ، نظرت حولي فوجدت الناس يستعدون لخوض معركة ركوب القطار فى محاولة بائسة للحاق بأعمالهم بعد التأخير اليومي الذى تسبب فيه القطار رافعين شعار (إما النصر او الفصل).
دخل القطار المحطة و كان ممتليء بأكمله من المحطات السابقة حتي تعلقت الاجساد بالأبواب و خرجت الرؤوس من النوافذ ، حتي توقف القطار تماما ً ، و بدأت معركة من هم بداخل القطار فى محاولات للفرار منه ، و من هم خارج القطار فى محاولة للركوب قبل أن يتحرك مجددا و يفوتهم.
دائما ما أعتقد ان الممثل و المخرج الشهير ميل جيبسون قد زار محطة قطار سيدي بشر فى الصباح من قبل و قد استوحي منها مشاهد المعارك في أسطورته الخالدة (القلب الشجاع) ، دارت الحرب الأهلية امام عيني و التحمت الاجساد ببعضها و تشاجرت الأيدي و اطلقت الألسنة اشنع الألفاظ ، لم أشترك انا و فضلت النظر من بعيد حتي ينقشع غبار المعركة ، ما زلت أتذكر المرة الوحيدة التى حاولت فيها الالتحام وسط الحشود ، اخذتني العزة و تزاحمت و تشاجرت و قاومت ، لا صوت يعلو فوق صوت المعركة إلا صوت صراخ طفل رضيع من داخل القطار سيصيبه ما يراه بتبول لا إرادي يلازمه حتي سن متأخرة ، تجنبت المكائد و نجوت من محاولة إغتيال فاشلة من شاب حاول التشبث باكتاف الناس فتشبث بعنقي و سقطنا على الأرض ، حشرت نفسي مرة أخرى وسط الحشود بعد ان سقطت كتبي و تقطع قميصي من دبر، اتلقي الضربات و اللكزات و الهمزات ، أقاتل لركوب القطار غير عابئا ً بقدمي التى زلقت حتي كدت أسقط بين القطار و الرصيف ، و بعد ما ركبت القطار يومها ، و إنقشع غبار موجة الهجوم الأولي و كانت أثمرت عن خسائر بدنيه و ماديه و نفسيه ، ثم يأت السؤال الذى لم اجد له إجابه من يومها ، هل يستحق القطار كل هذه المعاناة و كل هذا القتال لكي لا يفوتنا ؟.
نظرت إلى المعركة التي أشاهدها بث مباشر امامي ، صرخت فى الناس من حولي ان نقف صفا ً واحدا ً لكي نركب جميعا ً فى نظام ، صرخت مجددا حتي بح صوتي محاولا جعل الحشود ينتظرون من يريد ان يغادر القطار اولا ً حتي يتسني لنا الركوب فى مساحة تسع الجميع ، صرخت مجددا لكن صوتي لم يغادر حنجرتي ، نظرت فى ذهول إلي جيش قرطاجة و هو يحاصر أسوار روما ،
صوت صافرة القطار أعادني من ذهولي ، نظرت حولي فلم اجد احد على الرصيف ، بحثت عن الرجل العجوز الذي كان بجواري فلم اجده ، ركب القطار ، بحثت عنه بنظرى داخل القطار فوجدته يتشاجر مع رجلان اخران و هم يقفون ثلاثتهم على حافه الباب آيلين لسقوط فى اى لحظة ، نظر إلي الرجل لحظة ثم قال بصوته المكتوم ” واقف عندك بتعمل ايه؟ القطار بيتحرك!” و بالطبع أضاف بعدها لعنة اصابت (ابو شكلي) انا و أمثالي ممن لا يفقهون قواعد ركوب القطار ، كلماته كانت فى لحظات كافية ليزيد السائق من سرعته فى طريقه للخروج من المحطة ، حاولت ان اعدو بجانب القطار فى محاولة بائسة للركوب و حاول بعض الناس على الأبواب ان يمدوا لي يد العون لكي أتعلق بأحدهم ، سحبت يدي بسرعة كي لا اتعلق بالهواء و أسقط أسفل عجلات القطار التي لا ترحم حتي وصلت لنهاية الرصيف و كان القطار قد غادر المحطة ، نظرت إليه في حسرة ثم نظرت إلي ساعة يدي ناعيا المحاضرة الأولي التى لن أستطع اللحاق بها بعد ما فاتني القطار ، فاتني لانني آثرت الحفاظ على نفسي من القتال ، من التعامل مع الناس كما يتعاملون هم مع بعضهم البعض ، من القتال حتي الرمق الأخير ، القتال ….. حتى لا يفوتني القطار.

Comments (0)
Add Comment