نبذه عن أبو الأسود الدؤلى ” الجزء الثالث “… إعداد / محمـــد الدكـــرورى
ونكمل الجزء الثالث مع أبو الأسود الدؤلى، وهو الذى قام بتنقيط القرآن الكريم، وقد توقفنا مع الأسباب التي دفعت أبو الأسود الدؤلى لأن يفعل ما فعل ما حدث له مع ابنته التي أخطأت في التعبير حين قالت “ما أشدُ الحرّ” قاصدة التعجب، فصحح لها أبوها ذلك، بقوله “ما أشدَّ الحرّ، بالإضافة إلى قصة الأعرابي الذي أخطأ في لفظ الآية في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فلما سمع بذلك، أمر باقتصار قراءة القرآن الكريم على علماء اللغة، وكما تقول القصة فقد وكّل أمر وضع النحو إلى أبو الأسود الدؤلى حينها، وهذه كلها دوافع ليقدم أبو الأسود الدؤلى على إيجاد مفاتيح النحو الأولى، ليأتي تلامذته من بعده فيضيفوا ما أضافو على هذا العلم للتخلص من الآفات التي طالت اللغة، وقد تولى أبو الأسود الدؤلى عددا من المناصب بِالبصرة في خلافة عمر بن الخطاب وخلافة عثمان بن عفان، ولما قامت الفتنة كان أبو الأسود في شيعة علي بن أبي طالب، وقاتل معه في موقعة الجمل، وقد ولاه علي قضاء البصرة في ولاية عبد الله بن عباس على البصرة، وقد استخلفه ابن عباس على البصرة لما ذهب ليحضر التحكيم بعد موقعة صفين.
وقد أقر الإمام علي بن أبي طالب ذلك، وقد ساهم أبو الأسود مع الإمام علي بن أبي طالب في كثير من الحوادث والمعارك التي حدثت أيام خلافة الإمام على، فاشترك في صفين والجمل ومحاربة الخوارج كما يؤكد ذلك المؤرخون وعندما وقعت موقعة الجمل، فكان لأبي الأسود في حرب الجمل دور فعال يشير إليه المؤرخون، فقد أرسل من قبل عامل الإمام علي بن أبى طالب على البصرة عثمان بن حنيف لمفاوضة السيدة عائشة وطلحة والزبير رضى الله عنهم أجمعين، وقد شارك أيضا في حرب صفين، حيث رشح نفسه للتحكيم، فيقول صاحب روضات الجنات أن أبو الأسود قد التمس من الإمام على أن يكون شريكا مع الحكمين، لكن أهل الباطل لم يرضوا به ولا بمشاركته مع أحد، وكان أبو الأسود من المتحققين بولاية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ومحبته وصحبته ومحبة ولده، وبعد مقتل الإمام علي، أوذي أبو الأسود لمحبته الإمام علي، إلا أنه حين وفد على معاوية بن أبي سفيان أدنى مجلسه وأعظم جائزته، كما كان مقربا من الوالي زياد بن أبيه الذي عهد إليه بتأديب ولده عبيد الله، وقد استفاد أبو الأسود من علمه بقراءة القرآن الكريم
الذي عرضه على عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب، وروى القراءة عنه ابنه أبو حرب ويحيى بن يعمر ونصر بن عاصم الليثي، وقد اختلفت الأقاويل في سبب وضعه للنحو، فقيل أنه وضعه بأمر من علي بن أبي طالب، لما سمع أخطاء غير العرب في نطق اللغة، فأراه أبو الأسود ما وضع، فقال علي ” ما أحسن هذا النحو الذي نحوت” فمن ثم سُميّ النحو نحوا، وعن أبي الأسود قال، دخلت على الإمام علي بن أبى طالب، فرأيته مطرقا، فقلت له فيم تتفكر يا أمير المؤمنين ؟ قال سمعت ببلدكم لحنا فأردت أن أضع كتابا في أصول العربية، فقلت إن فعلت هذا، أحييتنا، فأتيته بعد أيام، فألقى إليَّ صحيفة فيها الكلام كله اسم، وفعل، وحرف، فالاسم ما أنبأ عن المسمى، والفعل ما أنبأ عن حركة المسمى، والحرف ما أنبأ عن معنى ليس باسم ولا فعل، ثم قال لي زده وتتبعه، فجمعت أشياء ثم عرضتها عليه، وقيل أن أبا الأسود سمع رجلا يقرأ آية من كتاب الله وهى ” وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله فإن تبتم فهو خير لكم وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزى الله وبشر الذين كفروا بعذاب أليم”
بكسر كلمة “رَسُولهُ” بدلا من ضمّها مما يغير معنى الآية، وتفيد بأن الله يبرأ من رسوله، فانطلق أبو الأسود لوقته إلى الأمير وقتها زياد بن أبيه، وقصّ عليه ما سمع، وسأله أن يدفع له كاتبا ليضع كتابا في اللغة، فأتى به فقال له أبو الأسود، إذا رأيتني قد فتحت فمي بالحرف فانقط نقطة أعلاه، وإذا رأيتني قد ضممت فمي، فانقط نقطة بين يدي الحرف، وإن كسرت، فانقط نقطة تحت الحرف، فإذا أتبعت شيئا من ذلك غُنة فاجعل مكان النقطة نقطتين، فكان هذا نهج أبي الأسود في تشكيل الحروف، لذا فهو يعد أول من نقط المصاحف، وأخذ عنه هذا النحو عنبسة الفيل، وكان أول ما وضع أبو الأسود أبواب الفاعل والمفعول والمضاف، وحروف الرفع والنصب والجر والجزم، وقد أخذ علم النحو والعربية، وقراءة القرآن عن أبي الأسود عدد من الرجال ودرسوا على يديه النحو وعلوم العربية، وقراءة القرآن ومن أبرزهم، هو نصر بن عاصم الليثي الكناني، ورامي الأسدي، ويحيى بن يعمر العدواني، وابنه أبو حرب بن أبي الأسود الدؤلي الكناني، وسعد بن شداد الكوفي المعروف باسم سعد الرابية، وميمون بن الأقرن، وعنبسة بن معدان الفيل المهري
وعمر بن عبد الله مولى عفيرة وقد قيل أن لأبي الأسود أنه كان من الشعراء المجيدين وله قصائد عديدة جمعت له في عدد من المؤلفات، وكان له صديق يقال له الجارود سالم بن سلمة بن نوفل الهذلي وكانا يتجاوبان الشعر فكان مما قاله أبو الأسود للجارود من الشعر، أبلغ أبا الجارود عني رسالة يروح بها الماشي لقاءك أو يغدو فيخبرنا ما بال صرمك بعدما رضيت وما غيرت من خلق بعدُ أإن نلت خيرا سرني أن تناله تنكرت حتى قلت ذو لبدة ورد، وقيل أنه قائل البيت، لا تنه عن خلق وتأت بمثله عار عليك إذا فعلت عظيم، وقد روي أن الإمام علي بن أبي طالب أراده ليكون المفاوض عنه في حادثة التحكيم بعد وقعة صفين فأبى الناس عليه، وروي أن أبا الأسود الدؤلي دخل على معاوية بالنخيلة فقال له معاوية “أكنت ذكرت للحكومة ” والحكومة هنا بمعنى الحُكم بين الفريقين المتخاصمين، فقال الدؤلي له نعم، فقال فما كنت صانعا؟ فقال له كنت أجمع ألفا من المهاجرين وأبنائهم وألفا من الأنصار وأبنائهم ثم أقول يا معشر من حضر أرجل من المهاجرين أحق أم رجل من الطلقاء، فضحك معاوية ثم قال، إذا والله ما اختلف عليك اثنان.
وقصد معاوية هنا أن حُجة أبا الأسود مقنعه ولكان الناس رضوا بحكم أبا الأسود بأن عليا أحق بالخلافة، وقد قسّم المتقدمون علماء النحو في المدن ومدارسها النحوية إلى طبقات، فقد قُسم علماء البصرة إلى عشر طبقات مثلا جاء أبو الأسود الدؤلى في الطبقة الأولى منها، بل كان على رأس هذه الطبقة بالنسبة لمعاصريه، فأخذوا عنه، وتعلموا منه المسائل النحوية، ومن التلاميذ الذين أخذوا عنه، واستهدوا بما وضع هو عبد الرحمن بن هرمز الأعرج، ويعد عبد الرحمن بن هرمز هو أول ناقل لعلم النحو إلى المدينة، كما كان أعلم النحاة في وقته آنذاك، وكذلك عطاء بن أبي الأسود حيث قام عطاء بن أبي الأسود بتبسيط النحو، وتعيين أبوابه ومقاييسه، ويحيى بن يعمر، حيث قام بن يعمر بتعيين الأبواب النحوية وتبسيط النحو كذلك، وأيضا عنبسة بن معدان، وقيل في عنبسة إنه أكثر أصحاب أبي الأسود براعة، وميمون الأقرن، وكان أبو عبيدة يرى تقديم ميمون على عنبسة، وتصر بن عاصم، وقد نُسب لابن عاصم أول النحو، وقيل فيه أنه أنبل من تتلمذ على يد أبو الأسود الدؤلى، وعبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي، وقد كتب الحضرمي في دلالات الهمز ولقد كان لأبي الأسود الدؤلى مكانة عظيمة عند العلماء.
وكما شهد الكثير من علماء اللغة بفضل الدؤلي وإنجازاته في التشكيل القرآنى، وتظهر صفات أبي الأسود الدؤلى في أدبه وشعره الذي كان ينظمه، حاله حال الأديب والشاعرالذي يصور أدبه ذاته وشخصيته، وكان من صفاته الكرم، فكان أبو الأسود معطاء، وقد قيل عنه قصة مع جاره الذي كان حاسدا له، فبعد انتقال أبي الأسود الدؤلى إلى مدينة هذيل، ذهب جاره القديم ليسأل جاره الجديد في هذيل عن كرمه وعطائه في سقاية اللبن، وفى وصفة بالكرم هذه تعاكس ما قاله عنه ابن قتيبة الذي اتهمه بالبخل، وتعد الفطنة والحنكة من أهم الصفات التي جعلت أبي الأسود الدؤولى رصيدا كبيرا من الحكمة،وكان لهذه الصفة تأثير على الحكمة التي تشكلت لدى شخصية أبي الأسود الدؤلى ومن الأمثلة على ذلك ما قاله في صديقه الهيثم بن زياد بعد أن أفشى له سرا، فلست بجازيك المالمة إنني أرى العفـو أدنى للسداد وأوسعا الحكمة، ولقد استسقى الدؤلي الحكمة التي امتاز بها من مصادر عدة كان أولها القرآن الكريم، والسيرة النبوية، وكما أستفاد من تجاربه وخبراته الشخصية، ومن الشعراء الأوائل، وقد سخر الدؤلي حكمته هذه في إبداء النصح والإرشاد لنفع الناس.