سلمونيلا

بقلم/حسن محمد
ما الذي يدفع شخصًا للبُوحِ عن سرٍ من أسراره؟ هل هي طبيعتُنا البشرية في أن نجد أحدًا يسمعنا أو يشعر بنا؟ أم أن للبوح لذةً وكِتمان السر عذابٌ!
لكل شيء نقيضه، ولولا تواجده لفقدت الأشياءُ معانيها، هل عرفت الحب دون الكره، أتذوقت مرارة الصمت بعد البوح؟
صديقي طالب بكلية العلوم، يدرس بقسم «الميكروبيولوچي»، يعاني من اضطرابات نفسية، قليل الكلام ويميل أكثر إلى العزلة..
أنتظره من حين لآخر أن يطلبني هاتفيًا، لا أسلم أبًدا من هذا؛ فأنا أمقت الفضول جدًّا..
لا تدري ماذا يحدث بعقلي من تساؤلات واحتمالات!
ماذا يريد، هل سيطلق زوجته في حين أنه أعزبٌ!؟
سرٌ جديد من أسراره، سيحدثني عنه -أنا لا أصدق حرفًا مما سيقوله- ولكنني ساسمعه؛ فهو صديقي..
عذرًا نسيت أن أعرفكم عنه، صديقي: سعيد بكتيريا.
بكتيريا! لا داعي للدهشة والسخرية.
الألقاب -بكلية العلوم- تطلق على حسب القسم، قد تجد -على سبيل المثال- أشرف حيوان، وهذا يعني أنه ليس حيوانًا -بكل تأكيد- بل هو يدرس بقسم الحيوان فقط لا غير..
قبل أن أحدثكم عن السر، لدي طلب أن تلتزموا الصمت وقت الحديث، هل هذا عسير عليكم؟
هل سمعت عن شخص يتحدث مع كائنات دقيقة؟ دعك أنها لا تتكلم أصلا، ولا تُرى بالعين المجردة؛ أهذا معقول!؟
***
-«أنت فين؟»
-«جاي في الطريق أهو، خمس دقائق.»
-«أنت مش هتبطل العادة اللي فيك دي!»
جاء صديقي بعد نصف ساعة تقريبًا، وهذا ما قد توقعته..
-«حمدلله على سلامتك، يا بيه.»
-«بالله ماتزعل، طب تشرب إيه؟ هعزمك متخافش.»
شاور للنادل أن يأتي، صمت طويل، ونظرات تحدق «بالمنيو» تشي بقرار نعرفه -جميعنا بلا استثناء- ولا سيما النادل أيضًا.
-«اتنين شاي، سكركم إيه»
نظرنا له ضاحكين -يبدو واعيًا- فالحمدلله قد أزاح عن كاهلنا الحرج، وقبل أن يلتفت صاح صديقي:
-«خليهم تلاتة شاي لو سمحت»
-ثلاثة لمن، وأين ثالثنا!؟
لم يرد.
-«انت يابني!»
أومأت للنادل لكي يذهب، وحينما كان ينظر -على يمينه- إلى الكرسي الفارغ، أوجست خيفةً من الذُعر الذي كان يستوطن عينه!
-«مالك يابني فيك إيه!»
-«أنا تمام، تمام.»
-«احكيلي طيب عن السر اللي منزلني عشانه.»
‏-«salmonella»
«سلمونيلا» هذا مصطلح سمعته من قبل في «أغنية»، قلت في استغراب:
-نعم، ماذا تقصد!؟
-ألست تعرفها؟
-هذه أغنية!
نظر لي ساخرا ثم قال:
-رحب بصديقتي«salmonella». قالها وهو يشاور إلى الكرسي.
صديقي قليل المعرفة بالرجال، ولا توجد امرأة في حياته؛ لذلك استبعد ما يدور بعقلك.
-أين هي صديقتك؟
-لا، لا شيء. قالها وهو شارد، يحدق في الكرسي.
جاء النادل يحمل «براد شاي» وثلاثة أكواب «خمسينة»، شرع يسكب الشاي وهو ينظر إلى صديقي؛ حيث تكاد تقرأ لغة عيونه، وهي تقول:
-لمن الكوب الثالث؟ لماذا يحملق هذا الوغد في الكرسي هكذا؟
-«شكرا، تسلم إيدك.»
انصرف النادل ثم صحت في ذهول:
-«هتجنني، يا سعيد.»
التفت إلي كأنني قطعت عليه مشاهدة لفيلم سينمائي رائع.
-ماذا تريد؟
كنت أدري أنه مخبول، ساذج…
قطع حديثي مع نفسي، قائلا:
-«أنتَ عارف إني بحب علم البكتيريا جدًّا، و «سلمونيلا» -صديقتي- هي نوع من البكتيريا.»
هل يتحدث هذا المخبول مع بكتيريا؟ نظرت إلى «الترابيزة» فوجدت الكوب الثالث فارغًا؛ تملكني الخوف فارتعشت يداي، وهو لازال ينظر إلى المقعد مبتسمًا.
-«ممكن تعرفني إيه اللي بيحصل هنا!»
-«بس، بس متعليش صوتك، هتزعجها.»
-«أزعج مين؟ أنت اتجننت!»
-«أهي مشيت، عجبك كدا!»
-«مين اللي مشيت!؟»
-أنا أحب
–تحب!
-نعم.
–من هي؟
-«سلمونيلا.»
–الأغنية أم البكتيريا!
-هل تسخر مني؟ أنا أحب امرأة.
***
هل انتهى الحديث، نعم قد انتهى؛ ولكن بعدما هشمت رأسه ولكمته في أنفه..
صديقي يحب امرأة، وقد أسماها «سلمونيلا»، أتدري ما السبب؟ السبب أنه مولع بعلم البكتيريا؛ ولكن ماذا عن كوب الشاي، ونظرته إلى الكرسي دائمًا!؟
أشياء لا أستطيع تفسيرها، ربما هو الحب، وشروده!
لو الحب هكذا فأنا لا أريده، ولا أريد صديقي هذا مرة أخرى؛ فقد قطعت علاقتي به تمامًا.

رئيس مجلس إدارة جريدة القاهرية

سلمونيلا
Comments (0)
Add Comment