بقلم/ حسن محمد
هل من الممكن أن نسافر إلى مكان غير مكاننا، إلى عالم غير عالمنا، وأنت جالسٌ وحدك، تحت إضاءة خافتة تمسك كتابًا بيدك وتقرأ، الكتبُ حولك تتربص بك وتناديك، فتحدث نفسك:
-ماذا سأقرأ اليوم، أي عالم سأعبره، وأي سماءٍ سأحلق بها..
ماذا لو كان هناك شخصٌ يراقبك، أنت لا تراه..
يشاطرك ضحكاتك وبكائك، يجلس بجانبك الآن ويرى أنني أتحدث عنه، ماذا لو كان ينظر إليك الآن؟!
ربما هو قرينك أو كائن فضائي سمع -من غرفتك- صوت موسيقته المفضلة؛ فقرر أن يقضي ليلته معك اليوم، ربما تظن أنك تجلس وحيدا، ربما؛ ولكنك لست وحدك.
***
في ليلةٍ قمريةٍ، بغرفةٍ يُبدد ظلامُها ضوءَ القمر، يرقدُ على فراشه مُغمَّضَ العينِ ولكنه لم ينم، فهو يحلم برحلةٍ إلى الفضاء، يُحلِّق وسط النجومِ ويهبط بها على القمرِ..
سكون تام يتخلله صوت الموسيقى وصرير الرياح يعبثُ «بدرْفة» النافذة الخارجية؛ فتعطي جوًّا مرعبًا..
إنه يفكرُ بلا هُدنةٍ، يفكر بصوت عالٍ حاسبًا أن لا أحد يسمعه:
-رحلةٌ إلى الفضاء! فكرة رائعة ستنال إعجاب الكثير؛ فالناس يعشقون الخيال، لكن من سأصطحبه معي؟ أنا وحيد وليس لدي…
قطع كلامه صوت يهمس بإذنه.
-أنا معك؛ لست وحدك.
بذهولٍ قال:
-من أنت؟
-أنا بجانبك..
اعتدل من نومته -وصدره يعلو ويهبط من الرعب- ينظر إلى جانبه بعينين جاظتين.. لا أحد.
-لا تبحث عني..
انتفض من فراشه متجها إلى «كُبس» الإنارة؛ ليضيءَ نورَ الغرفة في حين صاح نفس الصوت:
-النور لااااا؛ سأضرك إذ فتحت.
فجاءة تصلبت قدميه، اتسعت عيناه اللتان كادتا أن تخرجا من حجريهما، سكت لسانه؛ فلم ينبس ببنت شفة، ثم عاد نفس ذات الصوت، قائلًا:
-لا تخف لن أؤذيك، عليك أن تهدأ.
-ماذا تريد مني؟
-أنت من تريد.
-أنا لا أريد…
-ألست تريد رحلة إلى الفضاء؟
-بلى، ولكن كيف عرفت؟
-أنا هنا منذ وقت طويل.
-من أنت؟
-أنا بطل قصتك، سنبدأ رحلة روايتك معا.
-وما اسمك؟
-ليس هناك وقتٌ، سأخبرك بكل شيء تريده..
الآن عليك أن تستعد وتجهز حقيبتك؛ الرحلة طويلة جدًّا وسنحتاج إلى طعام كثير.
-أنا أسكن وحدي، فليس لدي طعام.
-الأسعار غالية جدا، هل تدري كم سعر كيلو الطماطم بالفضاء؟
-أتوجد طماطم في الفضاء؟
-نعم، يوجد كل شيء، احضر ملابسك فقط وسنتصرف لا تقلق.
أول ما فكر فيه أن يضيء الغرفة، ولكنه تذكر..
أجفل يلتقط بنطالًا وقميصًا من على المشجبِ، وتحت ظل إضاءة القمر الخافتة ارتدى ملابسه وحذاءه، فلم يستغرق بضع دقائق حتى ملأ حقيبته..
-أنا جاهز.. أنت يا هذا، أين رحلت؟
-هنا بجانبك، هل أنت مستعد؟
-أنا مستعد، ولكن لمَ لا تظهر؟
-لا أقدر هنا، سأظهر لك في الوقت المناسب.
-ما السبب؟
-اغمض عينيكَ، وكفُّ عن الأسئلة، ولا تفتحها إلا حينما أخبرك بذلك.
***
اغمض عيناهُ الحالمتانٍ في ذروة لهيبهما، فردَ ذراعيهِ كالفراشةِ علَّه يطيرُ ويحلِّقُ..
رفع رأسه إلى أعلى، ارتفع من على الأرض -مع صوت الموسيقى- وكل ما حوله يتلاشى تدريجيًا, فتراقصت أُذنيه الحالمة بصوت العزف الشجي؛ فارتسمت -على فيه- ضحكة قد غابت منذ فترة، وزمن طويل..
وها قد عادت، وها هو يحلق ويرتفع أكثر إلى أكثر..
ها هو الآن حر، الحرية التي طالما تمناها، وها هي قد جاءت جاثيةً تحت رجله؛ جارية عند سلطانها وعبيد عند سيده..
-ماذا تريد يا سلطان؟ أريد الحرية ورحلة إلى الفضاء.
حاول أن يفتح عينيه في خبثٍ لكي يرى موضعه في حين كشفه -هذا الكائن- وبصوت أجش قال:
-لا تنظر إلى تحتك، ضع رأسك إلى أعلى وحلّق فاردًا جناحيك..
ظل يردد:
-إلى أعلى إلى الفضاء السحيق والكون العتيق.. هل انتهينا؟
-الرحلة طويلة، هل مللّت من بدايتها؟
-أنا لا أتعب ولا أمل، أخشى عليك أنت من التعب.
بعد مدة شعر بيدٍ تسحبه من -حقيبته التي على ظهره- لركن، إلى مكان.. ربتت -على كتفيه- يدٌ وصوت يحدّثه:
-أجلس لنسترِحَ قليلا.
ها هما يجلسان على سحابة بيضاء، فوقهما تمر الطائراتُ وتحتهما منازل -مخيفة الشكل- تلتمع كالنجوم، فقد إنقلب الحال رأسًا على عقب؛ فالمنازل أصبحت نُجُومًا، والسماءُ اِمتلئت بملايين البيوت في فضاء كاحل الظلام.
عاد الصوت مرة أخرى:
-ألست جائعًا؟
-بلى، ولكن…
-لا تقلق، قد أحضرت معي طعامًا.
-ماذا أحضرت؟
-سمك، وأرز.
زمَّ شفتيه في ضيق -وهو مطرق الرأس- يتمتم:
-سمك في البيت وفي السماء، يالطيف.. نظر على يمينه مشاورا في موضع تهديد بسبابته، ثم أردف:
-من أنت؛ أخبرنِ؟!
-أنا بطل روايتك، وصانع قصتك، أنت الراوي الذي تتحكم في شخصياتك، والمحرك لدوافعهم؛ فأنا الشرير والطيب.. الجبان والقوي.. المخلص والخائن.. التقي والفاسق.
-بطل روايتك تحت أمرك يا سُلطان، فماذا تريد أن أكون عليه؟
***
-لا أريدك..
-ماذا تقول؟
-كما سمعت.
-كيف تستغنى عن بطل قصتك؟
-أنت لست بطلًا لروايتي؛ فلا أحد بطل قصتي..
-كيف هذا؟
-سأشرح لك..
-أنا راوٍ أتحكم بك، أُكوَّن شخصيتكَ وصِفاتكَ فأطلق عليك اسمًا غريبًا؛ فأنت البطلُ الزائف، أمَّا أنا الراوي وبطل الحقيقي لقصتي.. أنت لا شيء، أنت لعبة أحركها كيفما شئت وأينما أردت..
ضحك هذا الكائن وفي سخرية قال:
-أنا من جئت بك إلى هنا، أنسيت هذا؟
-لم أنسَ فضلك علي، ولكن الآن انتهى دورك معي.
-لمَ انتهى دوري في قصتك؟
-أنت لست شخصا محوريا؛ بل كنت شخصية فرعية في روايتي لا أكثر.. وقد انتهيت مع نهاية بابي الأول..
***
هل سافرت معي إلى عالم آخر خلال قرأتك؟ لو الإجابة بنعم؛ فالحمدلله قد نجحت..
أما عن رحلتي إلى الفضاء فلم تنتهِ بعد، وأمَّا عن الكائن الذي كان يرافقني، فقد استغنيت عنه، فلا حاجة لي بيه.
أنا أملك ما هو أثمن.. أملك القلم؛ فهو رفيق رحلتي، وخيالي فضاءٌ سحيق بداخلي؛ أحلق به بروحي ومشاعري..
القلم هو بطل قصتي.. وحده البطل لا غيره.
رئيس مجلس إدارة جريدة القاهرية