بقلم/ حمادة توفيق
(الرابعة)
لعلَّ أكثرَ ما يحفظُ الناسُ من شعرِ جميلٍ هذه الأبياتَ :
أبثينُ إنكِ قد ملكتِ فأسجحي ..
وخذي بحظكِ من كريمٍ واصلِ !
فلربَ عارضةٍ علينا وصلها ..
بالجدِّ تخلطه بقولِ الهازلِ !
فأجبتها بالقولِ بعد تسترٍ ..
حبي بثينةَ عن وصالك شاغلي !
لو كانَ في قلبي كقدرِ قلامةٍ ..
فضلاً وصلتكِ أو أتتكِ رسائلي !
صادتْ فؤادي يا بثينُ حبالكم ..
يوم الحجونِ وأخطأتكِ حبائلي !
منيتني فلويتِ ما منيتني ..
وجعلتِ عاجلَ ما وعدتِ كآجلِ !
و أطعتِ فيَّ عواذلاً فهجرتني ..
وعصيتُ فيكِ وقد جهدنَ عواذلي !
و تثاقلتْ لما رأتْ كلفي بها ..
أحببَ إليَّ بذلك من متثاقلِ !
ويقلنَ أنكِ يا بثينُ بخيلةٌ ..
نفسي فداكِ من ضنينٍ باخلِ !
ويقلنَ أنكَ قد رضيتَ بباطلٍ ..
منها فهل لك في اجتنابِ الباطلِ !
ولباطلٌ ممن أحبُّ حديثه أشهى ..
إليَّ من البغيضِ الباذلِ !
حاولنني لأبتَّ حبلَ وصالكم ..
مني ولستُ وإن جهدنَ بفاعلِ !
فرددتهنَّ وقد سعينَ بهجركم ..
لما سعينَ له بأفوقٍ ناصلِ !
يعضضنَ من غيظِ لعيٍ أناملاً ..
ووددتُ لو يعضضنَ صُمَّ جنادلِ !
ليزلنَ عنكَ هوايَ ثم يصلنني ..
فإذا هويتُ فما هوايَ بزائلِ !
و من روائعه :
خليليَّ عوجا اليوم حتى تسلما ..
على عذبةِ الأنيابِ طيبةِ النشرِ !
فإنكما إن عجتما لي ساعةً ..
شكرتكما حتى أغيبَ في قبري !
ألما بها ثم اشفعا لي وسلما ..
عليها سقاها اللهُ من سائغ القطرِ !
وبوحا بذكري عند بثنة وانظرا ..
أترتاحُ يوماً أم تهشُّ إلى ذكري !
فإن لم تكن تقطع قوى الود بيننا ..
ولم تنسَ ما أسفلتُ في سالفِ الدهرِ !
فسوف يُرى منها اشتياقٌ ولوعةٌ ..
ببينٍ وغربٍ من مدامعها يجري !
وإن تكُ قد حالتْ عن العهدِ بعدنا ..
وأصغتْ الي قولِ المؤنبِ والمزري !
فسوف يُرى منها صدودٌ ولم تكنْ ..
بنفسي من أهلِ الخيانةِ والغدرِ !
أعوذُ بك اللهمَّ أن تشحطَ النوى ..
ببثنةَ في أدنى حياتي ولا حشري !
وجاور إذا ما متُّ بيني وبينها ..
فيا حبذا موتي إذا جاورتْ قبري !
هي البدرُ حسناً والنساءُ كواكبٌ ..
وشتانَ بين الكواكبِ والبدرِ !
لقد فضلتْ حسناً على الناسِ مثلما ..
على ألف شهر فضلت ليلةُ القدرِ !
أيبكي حمامُ الأيكِ من فقدِ ألفه ..
وأصبر ؟ مالي عن بثينة من صبرِ !
يقولون : مسحورٌ يُجنُّ بذكرها ..
وأقسمُ ما بي من جنونٍ ولا سحرِ !
لقد شغفتْ نفسي يا بثينُ بذكركم ..
كما شغفُ المخمورُ يا بُثنُ بالخمرِ !
ذكرتُ مقامي ليلةَ البانِ قابضاً ..
على كفِّ حوراءِ المدامعِ كالبدرِ !
فكدتُّ ولم أملكْ إليها صبابةً ..
أهيمُ وفاضَ الدمعُ مني على نحري !
فيا ليت شعري هل أبيتنَّ ليلةً ..
كليلتِنا حتى نرى ساطعَ الفجرِ !
تجودُ علينا بالحديثِ وتارةً ..
تجودُ علينا بالرضابِ من الثغرِ !
فيا ليتَ ربي قد قضى ذاك مرةً ..
فيعلمُ ربي عند ذلكَ ما شكري !
ولو سألتْ مني حياتي بذلتها ..
وجُدتُّ بها إن كان ذلك من أمري !
مضى لي زمانٌ لو أخيرُ بينه ..
وبين حياتي خالداً آخرَ الدهرِ !
لقلتُ : ذروني ساعةً وبثينةُ ..
على غفلةِ الواشينَ ثم اقطعوا عمري !
مفلجةَ الأنيابِ لو أن ريقها ..
يداوى به الموتى لقاموا من القبرِ !
إذا ما نظمتُ الشعرَ في غيرِ ذكرها ..
أبى وأبيها أن يطاوعني شعري !
فلا أنعمتْ بعدي ولا عشتُ بعدها ..
ودامتْ لنا الدنيا إلى ملتقى الحشرِ !
ويقول :
بثينةُ قالتْ يَا جَميلُ أرَبْتَني ..
فقلتُ كِلانَا يا بُثينَ مُريبُ !
وأرْيَبُنَا مَن لا يؤدّي أمانة ..
ولا يحفظُ الأسرارَ حينَ يغيبُ !
بعيدٌ عن من ليسَ يطلبُ حاجة ..
وأمّا على ذي حاجةٍ فقريبُ !
وكانت قد التقت بجميل بعد طول تهاجر كان بينهما طالت مدته، فتعاتبا طويلاً ثم قالت له : ويحك يا جميل، أتزعم أنك تهواني وأنت القائل :
رمى الله في عيني بثينة بالقذى ..
وفي الغرِّ من أنيابها بالقوادحِ !
فأطرقَ طويلاً وهو يبكي وينتحب، ثم رفع رأسه وقال : بل أنا القائل :
ألا ليتني أعمى أصمُّ تقودني ..
بثينةُ لا يخفى عليَّ كلامها !
فقالت : ويحك، ما حملك على هذه المنى ؟ أو ليس في سعةِ العافيةِ ما كفانا جميعاً ؟
وسعتْ جاريةٌ من جواري بثينة بها إلى أبيها وأخيها وقالت لهما : إن جميلاً عندها الليلة.
فأتياها مشتملين سيفيهما، فرأياه جالساً إليها يحدثها ويشكو إليها وجده بها وشوقه لها، ثم قال لها : يا بثينة، أرأيت ودي لك وشغفي بك ألا تجزينه ؟
قالت : بماذا ؟
قال : بما يكون بين المتحابين !!
فقالت له : يا جميل أهذا تبغي ؟ والله لقد كنت عندي بعيداً منه، ولئن عاودتَ تعريضاً بريبةٍ لا رأيتَ وجهي بعدها أبداً. فضحك من كلامها وقال : واللهِ ما قلتُ لكِ هذا إلا لأعلمَ ما عندكِ فيه، ولو علمتُ أنك تجيبيني إليه لعلمتُ أنك تجيبين غيري، ولو رأيتُ منكِ مساعدةً عليه لضربتكِ بسيفي هذا ما استمسك في يدي، أو هجرتكِ إن استطعتُ على الأبدِ، أوما سمعتِ قولي :
إني لأرضى من بثـينةَ بـالـذي ..
لو أبصره الواشي لقرت بلابله !
بلا وبأن لا أستطيع وبالـمـنـى ..
وبالأملِ المرجوِّ قد خاب أملـه !
وبالنظرةِ العجلى وبالحولِ تنقضي ..
أواخره لا تلـتـقـي وأوائلـه !
فقال أبوها لأخيها : قم بنا فما ينبغي بعد اليوم أن نمنع هذا الرجل من لقائها، فانصرفا وتركاهما.
وقال جميلٌ يوماً لأحد أترابه : هل لك في مساعدتي على لقاء بثينة ؟
فمضى معه حتى كمن له في الوادي وأرسل معه خاتمه إلى راعي بثينة ودفعه عليه، فمضى به عليها ثم عاد بموعد منها إليه، فلما جنَّ الليلُ جاءته فتحدثا طويلاً حتى أصبحا ثم ودعها وركب ناقته وهي باركةٌ، قالت له بثينةُ :
ادنُ مني يا جميل.
فدنا منها وقال :
إن المنازلَ هيجتْ أطرابـي ..
واستعجمت آياتها بجوابـي !
فترى تلوحُ بذي اللجين كأنهـا ..
أنضاءُ رسمٍ أو سطورُ كتابِ !
لما وقفتْ بها القلوصُ تبادرت ..
مني الدموعُ لفرقةِ الأحبابِ !
وذكرتُ عصراً يا بثينةُ شاقني ..
وذكرتُ أيامي وشرخَ شبابي !
وقال كثير : لقيني جميل مرة فقال لي : من أين أقبلت ؟ قلت : من عند أبي الحبيبة – أعني بثينة – !!
فقال : وإلى أين تمضي ؟
قلت : إلى الحبيبة – أعني عزة – !!
فقال : لا بد أن ترجع عودك على بدئك فتستجد لي موعداً من بثينة.
فقال : عهدي بها الساعة وأنا أستحي أن أرجع.
فقال : لا بد من ذلك.
فقلت : فمتى عهدك بها ؟
قال : في أول العيد.
وقد وقعت سحابة بأسفل وادي الردم فخرجت ومعها جارية لها تغسل ثيابها، فلما أبصرتني أنكرتني وضربت بيدها إلى ثوب في الماء فالتحفت به تستراً، وعرفتني الجارية فأخبرتها، فتركت الثوبَ في الماء وتحدثنا حتى غابت الشمس، وسألتها الموعد.
فقالت : أهلي سائرون، وما وجدت أحداً غيرك يا كثير حتى أرسله عليها.
فقال له كثير : فهل لك في أن آتي الحي فأنزع بأبيات من الشعر أذكر فيها هذه العلامة إن لم أقدر على الخلوة بها.
قال : ذلك الصواب، فأرسله إليها فذهب، وقال : انتظرني حتى أعود.
ثم سار حتى أناخ بهم فقال له أبوها : ما ردك يا كثير ؟
قال : ثلاثة أبيات عرضت لي فأحببت أن أعرضها عليك.
قال : هاتها.
قال كثير : فأنشدته وبثينة تسمع من وراء الخدر :
فقلت لها يا عَزُّ أرسل صاحبي ..
إليك رسولاً والموكلُ مرسلُ !
بأن تجعلي بيني وبينك موعـداً ..
وأن تأمريني بالذي فيه أفعلُ !
وآخرُ عهدي منكِ يوم لقـيتـنـي ..
بأسفلِ وادي الرومِ والثوبُ يغسلُ !
فضربت بثينةُ صدرها وقالت : اخسأ اخسأ.
فقال أبوها : مهم يا بثينة ؟
قالت : كلبٌ يأتينا إذا نام الناس من وراء هذه الرابية !!
ثم التفتت إلى الجارية وقالت : أبغينا من الدومات حطباً لنذبح لكثير شاةً ونسويها له.
فقال كثير : أنا أعجل من ذلك.
وخرج وراح إلى جميل فأخبره، فقال له جميل : الموعد الدومات بعد أن تنام الناس.
وكانت بثينة قد قالت لأختها أم الحسين وليلى ونجيا بنات خالتها : إني قد رأيت في نحو نشيد كثير أن جميلاً معه.
وكانت قد أنست إليهنّ واطمأنت بهنّ وكاشفتهنّ بأسرارها فخرجن معها، وكان جميلُ وكثير خرجا حتى أتيا الدومات (اسم محل)، وجاءت بثينة ومن معها فما برحوا حتى برق الصبح، فكان كثير يقول : ما رأيت عمري مجلساً قط أحسن من ذلك المجلس ولا مثل علم أحدهما بضمير الآخر ولم أدر أيهما كان أفهم.
ولما ندر أهل بثينة دمَ جميل وأهدره لهم السلطان ضاقت الدنيا بجميل، فكان يصعد الليلَ كثيبَ رملٍ ويتنسمُ الريحَ من نحو حي بثينة ويقول :
أيا ريح الشمال أما ترينـي ..
أهمي وإنني بادي النحولِ !
هبي لي نسمةً من ريح بثنٍ ..
ومني بالهبوبِ إلى جميلِ !
وقولي يا بثينةُ حسبَ نفسي ..
قليلك أو أقلُّ من القلـيلِ !
فإذا ظهر الصبح انصرف، وكانت بثينة تقول لجوار من الحي عندها : ويحكن، إني لأسمع أنين جميل من بعض الغيران.
فيقلن لها : اتقي الله فهذا شيء يخيله لك الشيطان لا حقيقة له.
واجتمع كثير بجميل يوماً فقال له :
يا جميل، أترى بثينة لم تسمع بقولك :
يقيك جميلُ كـل سوء أمـالـه ..
لديك حديث أو إلـيك رسـولُ !
وقد قلت في حبي لكم وصبابتي ..
محاسنَ شعرٍ ذكرهنّ يطـولُ !
فإن لم يكن قولي رضاك فعلمي ..
هبوب الصبا يا بثنُ كيف أقولُ !
فما غاب عن عيني خيالك لحظة ..
ولا زالَ عنها والخـيالُ يزولُ !
فقال جميل :
أترى عزة يا كثير لم تسمع بقولك :
يقول العدا يا عَزُّ قد حال دونـكـم ..
شجاع على ظهر الطريق مصممُ !
فقلت لها والله لو كـان دونـكـم ..
جهنمُ ما راعت فؤادي جهـنـمُ !
وكيف يروعُ القلـبُ يا عـزُّ رائعٌ ..
ووجهك في الظلماء للسفر معلمُ !
وما ظلمتكِ النفس يا عزُّ في الهوى ..
فلا تنقمي حبي فما فيه منـقـمُ !
#يُتبع