بقلم: أماني عز الدين
“جيدة وسيري في طريقك.”
شتان بين معلم وآخر، قد تخلق الكلمات -حين تخرج من فم الإنسان- مبدعا ، وقد تقتل إبداعا، حين وقعت عيناي علي ذلك الإهداء، إلي مدرس اللغة العربية الذي ألقي بدفتر التعبير في وجهي قائلا: “ستموت قبل أن تكتب جملة واحدة.”
لا أعرف لماذا أعادتني الذكري الي ذلك اليوم البعيد؟! وتذكرت أستاذي الفاضل الذي لا أعرف إن كان لازال علي قيد الحياة، أم رحل عن دنيانا؟! إنه معلمي وأستاذي الأستاذ “زكريا إسماعيل حمادة” مدرس اللغة العربية بمدرسة هدي شعراوي الثانوية بنات بالإسكندرية، وددت أن أكتب اسمه كاملا كي أخلده، عل هناك من يصلني به؛ لأشكره علي تلك الجملة التي خطها بقلمه ذات يوم علي إحدى كتاباتي، كتب فيها
{جيدة وسيري في طريقك }
كنت لا أزال تلك الصغيرة، حديثة العهد، التي تعشق أن تدون كلماتها بقلمها الرصاص، حين سقطت إحدى أوراقي بين يديه عن طريق الصدفة، من خلال صديقتي التي أرادت أن تدعمني علي طريقتها الخاصة، بأن تجعل أستاذ اللغة العربية يثني علي، ذلك الرجل الذي كان يملك صوتا جهوريا، يلقي الرعب بقلبي عن بعد، لازلت أذكر ذلك اليوم، حين استدعاني إلى غرفة المدرسين ، وظننت أنه قد حان أجلي، وأنه لا منجي من هلاكي، فلم يكن من عادته أن يدعو طالبة إلي تلك الغرفة إلا ليعنفها علي ذنب اقترفته، كنت يومها أسير باتجاه الغرفة كمن يساق لغرفه الإعدام، أجهل مصيري وأجهل الذنب الذي من أجله دعاني، أسير نحو هلاكي المحتوم، طرقت الباب فأتاني صوته الجهوري من الداخل، وهو ينطق بكلمة واحدة “أدخلي”، شعرت أن نهايتي قد اقتربت، فتحت الباب، كان يقف بمواجهة النافذة وظهره إلي الباب، كانت فرصتي لأستجمع أشلائي المبعثرة، أغمضت عيني للحظة، وأخذت نفساً عميقا لم أجرؤ علي اخراجه، حين وجدته يلتفت نحوي، كدت أفقد قدرتي على التوازن والوقوف، ولكنني تذرعت ببعض من قوة لا أعرف من أين أتتني؟! أخرجت بعض كلمات بصوت لا يكاد يسمع “حضرتك طلبتني ” تمنيت أن يكون ثمة خطأ ما، وأنه ينتظر طالبة غيرى، هكذا نحن حين نقترب من الغرق، نبحث عن تلك القشة؛ لنتمسك بها رغبة في النجاة.
نظرت إليه وكأني آمل في عفو عن شيء، لازلت أجهله ، كدت أذوب رعبا من نظرته التي لم تكن تحمل أي معني؛ ولكنها كافية أن تلقي الرعب في نفس كل من يتلقاها.
أخرج من جيبه ورقة، أشار بها الي كدليل اتهام، كنت أعرفها جيدا.. إنها إحدي أوراقي المبعثرة، كيف وصلت إلي يديه؟! بالطبع سيعنفني.
سألني بكلمة واحدة وهو يلوح بها في وجهي ” ورقتك؟!”
ورغم الرعب الذي تملكني لحظتها، إلا أنني كنت أؤمن أن الصدق دوما هو سبيلي للنجاة، أومأت برأسي موافقة، عاد يسألني كمحقق يصر علي أن ينتزع اعترافات من المتهم :
” عندك أوراق تانية زي دي ؟!”
فأومأت برأسي بالموافقة مرة ثانية.
جلس علي طرف المكتب، ناظرا إلي بتفحص، ثم قال: “أنصحك النهاردة لما تروحي تجمعي كل أوراقك دي، وتكتبيها في دفتر، وكل ماتحبي تكتبي، تبقي تكتبي فيه ، أوراقك كدة هتضيع، لما تكبري هتاخدك الدنيا، ساعتها طلعي دفترك واترحمي علي قلمك، وعلي أيام كنت بتكتبي فيها، لكن اللي أتمناه بجد وأنتظره.. إنك تفضلي تكتبي علي طول، أكيد في يوم هتبقي حاجة.”
ثم مد يده بالورقة، وسلمني إياها، وحين نظرت إليها، وجدت جملة كتبت علي طرفها بقلم أحمر..
“جيدة وسيري في طريقك “
نظرت إليه، خيل إلي أنني لمحت ظل ابتسامة ارتسمت علي وجهه، ابتسامة لم أرها في حياتي طوال فترة تواجدي بالمدرسة، شعرت أنها ربما تكون مكافاة قد حظيت بها، وأن ما أكتبه شيئا عظيما، استحق تلك الابتسامة الوقورة، التي على قدر سعادتي بها، على قدر رعبي منها، حيث أنها تلاشت من علي وجهه في لحظة، وحل مكانها نظرته الحادة العابسة، كان كمن أمسك نفسه بجرم عظيم، وهتف بصوته المعتاد: “روحي علي فصلك.”
استدرت وانا لا أكاد أصدق، شعرت بينما أركض في اتجاه فصلي، أن قدمي لا تلمسان الأرض، وأنني أطير بلا أجنحة.
أدركت يومها قوة الكلمة، و ما تستطيع فعله بكيان الإنسان ؛ فهي قد تبنيه أو تهدمه ..
رئيس مجلس إدارة جريدة القاهرية