كتب/ حمادة توفيق.
(2).
هلمَّ الآن إلى الحلقةِ الثانيةِ والأخيرةِ التي سنستعرضُ فيها بشيءٍ من الإيجازِ واقعةَ مقتلِ الفنانةِ أسمهان وأسرارَ موتِها الغامضِ في حادثِ سيارةٍ.
من الإمارة إلى الموت تحولت المطربة السورية أسمهان شقيقة المطرب الشهير فريد الأطرش من نجمة تتلألأ في سماء الفنِّ إلى جثة هامدة لا حِراكَ بها في إحدى الترع، لتتحقق بمقتلها نبوءة لعرافة شهيرة كانت قد تنبأت بنهايتها المأساوية.
الحقيقة كانت الراحلة من أشهر نجمات جيلها، فلقد شكلت المطربة السورية الراحلة أسمهان حالةً فنيةً فريدةً في الطَّرَبِ العربي، من خلال صوتها الذي أدت به مجموعةً من أجمل الأغاني الطربية في الموسيقى العربية.
عاشت أسمهان حياةً دراميةً وإشكاليةً معقدةً برغم حياتِها القصيرةِ والتي لم تتجاوز 37 عامًا، من دخولها مجال الفنِّ وعملها بالسياسة وصولًا إلى عودتها للغناء بعد طلاقها من زوجها الأمير حسن الأطرش، وحتى حادثة موتِها أو إن شئت فقل مقتلها.
وُلِدت المطربةُ أسمهان في عام 1912م، على متن سفينة كانت متجهة إلى بيروت، وأسمتها أمها “آمال”.
وهربت والدتها “علياء المنذر” من سوريا باتجاه مصر في أعقاب “انتفاضة الدروز” مع أولادها فؤاد وفريد وآمال.
عاشت أسمهان في بداية حياتها في القاهرة حياة صعبة للغاية، فهي في بلد جديد دون أي عائد مادي سوى ما تجنيه والدتها من حفلات خاصة كانت تقيمها بين الفينة والأخرى، خاصةً وأن أخاها فريد الأطرش لم يكن أفضل حالًا ولم يكن قد انطلق في عالم النجومية بعد.
لكن في أحد الأيام، زار الملحن داود حسني منزل فريد وسمع أسمهان تغني، ما دعاه لمساعدتها بعدما أعجب بصوتها، وأطلق عليها اسم أسمهان.
وعلى الفور بدأت بالعمل مع فريد، ومساعدة والدتها في حفلاتها، إلا أن إصرار أخيها الأكبر فؤاد على زواجها من ابن عمها الأمير حسن الأطرش في عام 1933م جعلها تتوقف عن العمل الفني وتنتقل إلى سوريا، قبل أن تعود لاحقًا إلى مصر وتستأنف عملها الفني مجددًا في عام 1939م.
في الحقيقة وبعد عودتها إلى مصر، بدأت أسمهان بالغناء مستغلةً صوتها الذي سحر الكثيرين وشكلها الجميل، وهذا ما فتح لها أبواب النجومية، فشاركت فريد في فيلم “انتصار الشباب” في عام 1941م، وغنت معه أغاني الفيلم الذي حقق نجاحًا كبيرًا في تلك الفترة، وتعاملت مع كبار الملحنين الذين تعاونوا أيضًا مع (أم كلثوم).
ولحَّنَ لأسمهان السنباطي والقصبجي وغيرهم، وأخوها فريد الأطرش، فكانت أغاني “ليالي الأنس في فيينا” و”امته هتعرف” و”يالعينيك”، كما غنت مع عبد الوهاب أغاني فيلم “مجنون ليلى”.
قامت في عام 1944م ببطولة فيلم “غرام وانتقام”، لكنها تُوفيت قبل أن تنهي مشاهدها في الفيلم.
تزوجت أسمهان مرتين بعد زواجها الأول، الثاني كان من المخرج المصري أحمد بدرخان، والثالث من الفنان أحمد سالم الذي كان في اعتقادي لغزًا هو الآخر.
وقد تم إنتاج مسلسل عن حياة أسمهان في عام 2008م، من إخراج المخرج التونسي شوقي الماجري وبطولة سلاف فواخرجي وعابد فهد وتم تصويره بين سوريا ومصر.
المهم يا صديقي وبصرفِ النظرِ عن تفاصيلِ حياتِها الشخصيةِ التي قد لا يكونُ الإلمامُ بها مهمًّا بالنسبةِ للقراءِ، يبقى السؤالُ المُلِحُّ الذي يراودُ الكثيرينَ: من قتل أسمهان؟
تعالَ معي يا صديقي نركب آلة الزمن لنسترجع بعض التفاصيل البسيطة التي ربما قد تفيدنا في الإجابة على السؤال السابق.
في يوم 14 تموز 1944م، توجهت أسمهان مع صديقتها ومديرة أعمالها ماري قلادة إلى منطقة “رأس البر” المصرية تلبيةً لدعوة إحدى صديقاتها بسيارة تابعة لشركة “استديو مصر”، لتنقلبَ السيارةُ في ترعةٍ بمحاذاةِ الطريقِ، وتفقد حياتَها رفقةَ صديقتها، وسط أنباء عن هروب السائق واختفائه إلى الأبد.
وفي إفادته عن مقتل أسمهان، قال الفنان الراحل يوسف بك وهبي أنه حاول إثناءَ أسمهان عن هذه الزيارة، إلا أنها رفضت رفضًا قاطعًا، معتبرًا أن موتَها كان “قضاءً وقدر”.
وتصريح يوسف وهبي بأن موت أسمهان “قضاء وقدر” غريب ويحمل كثيرًا من علامات الاستفهام، خاصةً لمن كان ملمًّا بتفاصيل الواقعة.
المهم، أثارت حادثة مقتل أسمهان الحيرة والشكوك، ولا يزالُ موتُها يشكل لغزًا حتى اليوم، مع توزيع الاتهامات على شخصيات كبيرة ولها مواقعها الحساسة في مصر.
في الواقع فإن الأمير فؤاد الأطرش شقيق أسمهان الأكبر، فرضَ عليها كما قلنا أن تتزوج من ابن عمها الأمير حسن، خوفًا عليها من الزواج من شخص غير درزي بحسب قوله في كتاب “قصة أسمهان” للكاتب لفومبيل حبيب، وأنا شخصيًّا لا أدري إذا ما كان هذا الأمر له علاقة بمقتلها أم لا.
على أي حال عادت أسمهان بعد زواجها إلى جبل الدروز، وانخرطت هناك بالعمل السياسي رفقة زوجها، حتى أصابها الضجر، فقررت الطلاق وعادت مرةً أخرى إلى مصر، قبل أن تقنعها المخابرات البريطانية بالعمل لصالحها، وإقناع أهلها بعدم التعرض للقوات البريطانية والفرنسية التابعة للجنرال ديغول، والمتجهة لمحاربة القوات الفرنسية المسيطر عليها من قبل ألمانيا بزعامة هتلر، بحسب الكاتب المصري محمد الحمامصي في جريدة العرب بتاريخ 9 كانون الأول من عام 2018م.
كانت أسمهان تعاني من اضطرابات عاطفية وسياسية وفنية، لذلك فكرت أن تغسل كل ذلك في بحر وهواء مصيف رأس البر، حيث تعودت أن تلتقي بعشاقها، ولكن كانت هناك عيون ترقبها، إنجليزية، ألمانية، فرنسية، مع من ينافسها في فنِّها، وكانت قد انتهت لتوّها من تصوير آخر وأشهر أفلامها غرام وانتقام الذي سبق ذكره.
المهم، ركبت سيارتها، ولم يكن معها إلا سائقها، ولكن كان مصيرها قد تحدد مع ترعة تسير بمحاذاة الطريق إلى مصيفها المفضل، حيث تلتقي بمن يخطب ودها، زوجها السابق متعدد المواهب أحمد سالم الذي كان طيارًا، وأحد كبار مسؤولي استوديو مصر والممثل والكاتب وأيضًا تاجر السلاح ومستلزمات الحروب، بالإضافة إلى أشهر كاتب وصحفي مصري هو محمد التابعي، أحد أصحاب جريدة المصري “القديمة” ومنشئ مجلة آخر ساعة، وكان أكثر رجال مصر أناقة، وهو الذي كان يصر على أن ينزل في نفس الفندق الذي ينزل فيه الملك فاروق!
وفجأة انحرفت السيارة، وسقطت في الترعة، فماتت غرقًا، بينما تمكن السائق من النجاة إذ تسلق سقف السيارة، وهرب ولم يره أحد بعدها أبدًا، وهذا أحد أسرار هذا الحادث المريب!
ولكن أصابع الاتهام أشارت إلى أجهزة المخابرات، إذ كانت أسمهان على صلة بالمخابرات الفرنسية، والإنجليزية، والألمانية، وكانت غارقة في العمل السياسي من أجل حاضر ومستقبل الشام، وطنها بجزأيه الأكبر سوريا والأصغر لبنان، وأيضًا كانت مهتمة بمصير أهلها الدروز، وهم أقوى قوة سياسية وعرقية في الشام، وجدها سلطان باشا الأطرش كان زعيمَ جبلِ الدروز، ويبدو أن انغماسها في هذا العمل السياسي وعلاقتها المزدوجة وربما الثلاثية مع المخابرات هو الذي قادها إلى هذه النهاية الأليمة، فالأصابع تشير إما إلى أحدها، أو إلى كلها، ولكن الواضح أن كل هذه الأجهزة قد اتفقت على تصفيتها، وقد كان!
رحلت أسمهان إذن وراح سرها، أو ضاع، سواء بسبب هذه العلاقات، أو باختفاء السائق الذي اختفى تمامًا، وهذا دائمًا أسلوب من أساليب أجهزة المخابرات لمسح أو محو أي أثر يشير إليها، ولعلك تذكر يا صديقي ما حدث للأميرة ديانا في باريس، وسميرة موسى في كاليفورنيا، والدكتور المشد.
تم دفن أسمهان في مقبرة أقامها لها شقيقها المفضل فريد الأطرش الذي ظل يبكيها إلى أن لحق بها بعد عشرات السنين.
تمت.
رئيس مجلس إدارة جريدة القاهرية