بقلم: أحمد النحاس
يبدو لي أن أوان الحديث قد حان، إلى متى الصمت؟
هكذا حدثت نفسي وأنا جالس فوق قمة التعاسة، أنظر بعيون أعياها السهر وأرهقتها تفاصيل الانتظار.
كنت دائمًا في أماسي الشتاء الدافئة، أجلس في غرفة مكتبي التي لم تخلو أبدًا من رائحة رسائلها ومن صرخات رسائلي المحبوسة في الدرج الأخير، رسائل جهلت معالم الطرق والطوابع وصناديق البريد، رسائل طالما ادخرتها لتتكاثر الكلمات فيها وتنجب لي شبهًا لها يشاطرني الوحدة وغيابها.
اعتدت الجلوس لساعات طويلة، أمسك صورتها بأطراف أصابعي التي بترها الغياب وأبكِ رحيلها المبكر، أتحدث معها أحاديثًا ليست منمقة ولا مزوقة، أحاديثًا بسيطة أستعيد فيها مشاهد كنا فيها معًا أبدًا لن تعود، وأبدًا لن أعود لرؤيتها مجددًا، أتذكر المشاوير المسائية وأشرطة الموسيقى وابتسامة بائع الأيس كريم، أتذكر شعرها الأسود الطويل ولون عينيها ورقة ثغرها ووداعتها، أتذكر الصدفة التي جمعتنا، نظرتنا الأولى، لقاءنا الأول، أتذكر قبلتنا الأولى كيف كانت خاطفة حتى لا يبدو الأمر مشبوهًا، أتذكر لحظة الفقد بكل تفاصيلها الصغيرة وما حدث بعدها من حياة كبيرة كاملة غريبة لا ملامح لها، أتذكر براءتها وغبائي الكبير.
طالما كانت تأتيني بلا موعد، تأخذ بيد أفكاري المبتورة إلا منها ونمرح في الخيال بلا انقطاع، نجوب الشوارع القديمة، نطارد القط الذي كان يقطع طريقنا للعودة، نرسم على الجدران قصتنا ونكتب أسمائنا ظنًا منّا أنها ستخلدها كما خلدت قصص أجدادنا، نشتري الحلوى ونضع الكثير منها في أياد الأطفال، نطرق باب البيت ذاته في كل مرة ونختبئ فيخرج الرجل نفسه بلباس النوم الذي لا يستطيع احتواء كرشه المتدلي أمامه فنكتم ضحكاتنا ونسمع السباب نفسه وننتظر حتى يغلق الباب فننفجر ضحكًا ونركض، الآن تطرق ذاكرتي فتنزع عن عيني غشاوة النوم وتحول بيني وبين الأحلام التي هي سبيلنا الوحيد لتعود وأعود ونلتقي.
كنت قد قلت: لقد وجدت نفسي بكِ.
وقالت: لقد اكتملت نفسي بكَ.
لماذا رحلت بعدها وتركتني هنا أشاهد الظلال التي تتحرك على الحوائط وأرسم من خيال الفقد أشباحًا أطاردها في صحوي وتطاردني في نومي، لماذا قالت لي: اكتملت، وهي تعلم أن الاكتمال يعني النهاية، لماذا لم تترك لي مجالًا بعدها لأتحدث وتسمع، لماذا سلكت سبيلًا لا أستطيع السير فيه معها وتركت ليَّ التخبط في السبل خلفها، لا قمرٌ بعدها، سمائي كئيبة لم تشهد ولادة نجم جديد منذ عهدي معها، لا شيء كما كان، لماذا كل شيء يذكرني بها، رائحة الستائر المغسولة، بائعي الحلوى، أطفال الشوارع، الندبة في سبابتي اليسرى، الرسائل القديمة، عطرها والورق؟!
هل هناك من يستطيع أن يحكِ لي ما سيحدث لي بعد عامين أو ثلاثة من الآن، هل هناك من يخبرني بأنها تنتظرني في مكان ما وأننا ذات شتاء قريب سنلتقي، لماذا لا تمنحني العتمة التي أخذتها فرصة أخرى أو تأخذني إلى عالمها عوضًا عن الكوابيس الوحشية التي تطبق على روحي ولا أستطيع أن أتذكر منها شيئًا غير أنها كوابيس.
الآن وأنا أقف على بوابات الشتاء، أنتظر الصباح الذي يحمل لي أطيافًا طال انتظارها، أقف بيدين فارغتين، لا أحمل معي من الصور إلا بقايا.