القاهرية
العالم بين يديك

بعض التخلي حياة

124

‏بقلم/ سالي جابر

‏تحطمت المرآة؛ وتركتني وحيدة أقاسي تلك العبرات التي لا تُقاوم، أنبهر بقدرتي على الصمود رغم انفطار قلبي وتحطمه إلى أشلاء، كنت أقاسي نوبات غضبه الشديدة، وحرمانه العاطفي لي، وأعاصير كلماته، كانت تتساقط الدموع من مُقلتيَّ كما تتساقط الأوراق في فصل الخريف، أعيش على حافة ذاكرته، أتابعه في صمت، تتحول الحياة من حولي إلى فيلم رعب، أنظر إلى المرآة أجد فتاة ذات شعر رمادي مجعد، بخطوط تلتف في دوائر وجهها، وهالات سوداء، تتحطم يوميًا وهي تنتظر كلمة حب تُحييها وتنقلها إلى إنعاش القلب بعد سكونه؛ إنما تبقى كما هي منتظرة، أن تتجدد الحياة بكلمة منه، وتتنتقل إلى فصل الربيع حيث الجمال والزهور اليانعة، ونصير كما كانت هي زهرة وردية تستمد جمالها من الطبيعة، وفجأة انهالت شلالات دموع عيونها، وتحولت إلى خطوط سوداء، وقررت البحث عن بداية جديدة لحياتها، وكان أول يوم في عملها الجديد بعد انقطاع الحياة عنها لشهور وهي تنتظره.
– إسمي حياة وعمري خمس وعشرون عامًا، تخرجت في كلية الألسن.
– ‏تفضلي باستلام مهام عملك الجديد، وهؤلاء زملائك أتمنى أن تعاونوا على العمل للارتقاء بمستوى القسم.
– ‏أهلًا يا آنسة حياة، سوف نتقاسم العمل اليوم إلى أن يحدد لكِ عملك في الغد، وأنا معك إن أحتاجتي لشيء.
وبدأ العمل في هدوء وسلام وأنا على نهج الحزن والقلق، والخوف من علاقة جديدة، لا أدري لماذا أتمسك بهذا الحب وبشدة، فقد تخلى عني وتركني أقاسي الحياة بمفردي، ولا أدري ما الجُرم الذي فعلته.
ويوم بعد يوم بدأ يتسلل الأمل إلى داخلي، وفي نهاية النفق شعاع أمل ينير عتمة روح المار فيه، وأنا تحملت عتمته وظلمة المارين فيه، واليوم بدأت أرى النور.
لقد أنهكتني تلك المحاولات البائسة للتصالح معه، وتسألت: ماذا يمكنني فعله لأخرج من تلك المعركة بهدوء، وبأقل خسارة ممكنة، قطع شرودي زميلي أحمد بقوله: هل تريدين أن تشربي شيئًا يا آنسة؟!
أجبته: قهوة، وعدت إلى الخلف بذاكرتي، قهوة الصباح مع المكالمات الهاتفية التي تمتد إلى ستين دقيقة، يوميًا في تمام السابعة تنثر لي عقارب الساعة ورود وعطور، فكانت كلماته لي بمذاق الشيكولاته، لا مثيل لها، إلى أن تحولت تلك الساعة نبضات قلب أصبح ينزف يود قتل عقارب الوقت،. ودفنها مع ما تبقى من الذكريات، وضع أحمد القهوة أمامي ودق على المكتب كي ألتفت إليه، وبعد برهة من الوقت، نظرت إليه وقلت: آسفة؛ شردت قليلًا
– بل كثيرًا؛ العمل هنا غير شاق، ألا تودين محادثتنا؟!
– ‏وأنا بداخلي أجوبة مغلفة، أُجملها كمن يهادي شخصًا علبة شوكولاتة قيمة، لإن قيمة الهدية تتخلص في قدر أحتياج الشخص لها، وددت أن أقول له: أنركني بمفردي، لا تقطع شرود قلبي؛ إلا أنني وجدتها فرصة قيمة للتخلى، فأحيانًا التمسك بقوة يدمر، والتخلي برفق يعاود المياه إلى صنبور الحياة، لا أحتمل ضجيج قلبي ودقاته المتسارعة، وقررت التخلي، وبدأت حوارات وضحكات لا تنتهي، صحيح أنها لم تكن من القلب لكن تكفي أنها تزيح الستار عن الألم الموحش تحت قناع الذكريات
– ‏فاتنة أنتِ حين تسردين هكذا وفي يديك فنجان قهوتك الغَنَّاء
– ‏ماذا؟!
– ‏لا شيء.
– ‏هل تحبين القهوة هكذا؟!
– ‏كيف أحبها، إنني أحتسيها كما الجميع، هل من اختلاف؟!
– ‏نعم؛ جُل الاختلافات، حينما تلتحم شفاتيك بالكوب، تغمضين عيناكِ، وتتنفسين عبيرها، ويبتسم ثغرك كأنها تلامس قلبك
– ‏في القهوة انعزال عن العالم، لإنهاء عالم بذاته لها رائحة كما الزهور في بداية الربيع، تحتضنك كما تفعل الأم مع جنينها، أحبها لإنها عكس الحياة
– ‏وأنا أيضًا أحبها لأنها ملكت قلبك
نظرت إليه نظرة شاردة كانت تقول له، لا أود اقتحام قلبي ثم تركه عالقًا في المنتصف، سوف أتخلى عن عملي من أجل التمسك بقلبي مغلف، لا أريد التشويش على دقاته بعد اعتدالها، لقد تخطيت مرحلة الهروب وبدأت المواجهة، مع نفسي التي تعترف بأن الحياة مطبات صناعية، يسقط فيها كل شيء مزيف، وأن التمسك بشدة يزيد الجرح ألمًا، والأهلى يفرض على عالم عزلتك ضحكة كئيبة تودي بك إلى بر الأمان.
قررت هنا وبعد مرور ستة أشهر تصليح المرآة، وتجديد الحياة حولها، وفتح شباك الأمل لتدخل نسمات الربيع، وقطرات الأمل، ويبدأ التحدي الجديد.

قد يعجبك ايضا
تعليقات