القاهرية
العالم بين يديك

قط أسود

117

كتب/ حمادة توفيق.
جلستُ مكدودًا مُتعَبًا وقد نالَ مني الوجعُ وبلغَ بي مداهُ ومنتهاهُ، خرجتْ هي من حجرةِ النومِ تفركُ عينيها والنعاسُ مُخَيّمٌ عليها ظاهرٌ على مَلامِحِها، ابتسمتْ ابتسامةً عذبةً، مالتْ على خَدِّي فطبعتْ قبلةً صغيرةً دافئةً أذهبتْ وجعي جملةً واحدةً، ابتسمتُ، انتشيتُ، ثمَّ استويتُ جالسًا على المقعدِ متربّعًا وقد تنفستُ الصعداءَ، مضتْ هي إلى المطبخِ فَطَفِقَتْ تُحَضِّرُ العشاءَ في تُؤدةٍ.
– تأخرتَ كثيرًا.
– مواصلاتٌ كالعادةِ.
– أعانكَ اللهُ.
ابتسمتُ، طيبةٌ هي، بيدَ أنني لا أُحِبُّها، حاولتُ كثيرًا فلم أستطع، الحبُّ من أعمالِ القلوبِ والقلوبُ بيدِ اللهِ، ولا سلطانَ لأحدٍ على قلبهِ، مسكينةٌ هي، فلقد علمتْ مؤخرًا أنني ما تزوجتُها إلا هَرَبًا من قصةِ حبٍّ فاشلةٍ لم تُكلّلْ بالنَّجَاحِ.
أتتْ بالعشاءِ فَوضَعَتْهُ أمامي على السفرةِ، تناولتُ رغيفًا فقطعتُ طَرَفًا صغيرًا منهُ، ثم تَرَكتُهُ، لا شهيةَ عندي للطعامِ ولا رغبةَ لي فيهِ.
جاءتْ بالشاي فوضعته أمامي، وجدتْ الطعامَ كما هو فَدَهِشَتْ واستغربتْ.
– سأكتفي بالشاي.
ابتسمتْ ابتسامةً رقراقةً كالتي خرجتْ بها، توجهتْ إلى حجرةِ النومِ.
– تُصبحُ على خيرٍ.
مَدَدَتُّ يدي إلى كوبِ الشاي فلمحتُ في مدخلِ الشَّقَّةِ قِطًّا أسودًا بعينينِ مرعبتينِ، استولى عليّ هلعٌ جمٌّ وسرتْ في جسدي قشعريرةٌ باردةٌ فتمكنتْ منه، وضعتُ كوبَ الشاي، نظرتُ مجددًا إلى مدخلِ الشَّقَّةِ فلم أرَ شيئًا، أين القطُّ الأسودُ؟ لا وجودَ له على الإطلاقِ، هل كان ما رأيتُهُ وهمًا أو خداعًا بصريًا نتيجةَ الإجهادِ الجسديِّ الذي كان متمكنًا مني أيَّما تمكنٍ؟ لا أدري، فركتُ عينيَّ متأوّهًا طمعًا في استفاقةٍ لعلها تُنجيني من أيِّ خداعٍ بصريٍّ جديدٍ، مددتُ يدي مجددًا إلى كوبِ الشاي لأتناوَلَهُ، فجأةً رأيتُهُ من جديدٍ، نفسُ العينينِ المرعبتينِ، نفسُ النظرةِ المخيفةِ، نفسُ المكانِ، ونفسُ القشعريرةِ، لكن أبردَ وأحدَّ، استولى عليَّ الخوفُ فسقطَ الكوبُ من يدي على الأرضِ فتَهَشَّمَ مُصدرًا صوتَ ارتطامٍ أيقظَ زوجتي فقامتْ فَزِعَةً.
– ماذا حدث؟
– إنه القطُّ.
– ماذا؟
نظرتُ إلى حيث يقفُ فلم أره، لقد تبخر، لا أثر له.
– سبحان الله!
جاءت فجلست إلى جواري لتهدئ من روعي، ربَّتت على ظهري بكفٍّ حانٍ.
– رأيتُ لدى البابِ قِطًّا أسودًا.
– أين هو؟
– اختفى.
– هوّنْ عليك، أنت مجهدٌ فحسبُ.
فركتُ عينيَّ مجددًا، قمتُ فتوجهتُ صوبَ الحمامِ، سآخذُ حمامًا ساخنًا ثم أنامُ، فإن كانَ الإجهادُ هو السببُ بحقٍّ فالراحةُ هي الحلُّ، وإن كان ما رأيتُهُ حَقًّا، فـ ..
فجأةً رأيتُهُ في الحمامِ، نفسُ العينينِ المرعبتينِ، نفسُ النظرةِ المخيفةِ، نفسُ اللونِ الأسودِ، استولى عليَّ الهلعُ كالعادةِ، تجمدتُّ في مكاني، احتبستْ في حلقي صرخةٌ لعلها لو أُطلِقَتْ لَهَزًَتْ جُدرانَ الشَّقَّةِ، ارتعشتُ، ارتعبتُ، ثقُلَتْ بي قدمايَ فلم أقوَ على الوقوفِ، جلستُ أمامَ الحمامِ حَائِرًا، عيناهُ مخيفتانِ مفزعتانِ غاضبتانِ صارمتانِ، أنا المقصودُ إذن، فلو كان الأمرُ مجردَ خداعٍ بصريٍّ نتيجةَ إجهادٍ لَمَا رأيتُهُ للمرةِ الثالثةِ على التوالي.
فجأةً أحسستُ بيدٍ باردةٍ كالثلجِ تربتُ على كتفي، نظرتُ دَهِشًا، إنها زوجتي.
– مالك؟
– لقد رأيته مجددًا، كان ينتظرني في الحمام، نفس القط نفس النظرة نفس العينين.
نظرتْ بالداخلِ ثم همهمتْ:
– لا حول ولا قوة إلا بالله، الحمام فارغ لا شيء به.
مدت لي يدها مستنهضةً فتشبثتُ بها حتى استويتُ واقفًا.
– نم الآن واسترح، فليس ثمة حل لكل ما تراه إلا الراحة، الراحة فحسب.
ذهبتُ إلى حجرة النوم، استلقيتُ على ظهري، رفعتُ الغطاءَ إلى رأسي، وما هي إلا لحظاتٌ حتى سمعتُ صوتًا كالهمسِ، كان الصوتُ غيرَ بعيد مني، ربما في الصالة، ربما في حجرة الضيوف، لكنه كان واضحًا ومسموعًا على أيِّ حال.
أرهفتُ السمعَ جيدًا حتى أتمكنَ من التقاطِ ما يُقال.
– أنتِ امرأة غبية.
– ….
– لم نتفقْ على هذا.
– ……
– الرجلُ على حافةِ الجنونِ، سيضيعُ مني لا محالةَ.
– ….
– أنتِ ساحرةٌ فاشلةٌ، لقد طلبتُ منك سحرًا بالمحبةِ لا غير، بهذا الشكل لن أجد منه حبًا ولا حَدَبًا، بل لعله يقتلُني لو اكتشفَ الحيلةَ.
أنزلتُ الغطاءَ من على وجهي وقد استولى عليَّ الذهول فلم أنبسِّ ببنت شَفَة.
لم يكن ما رأيتُ إذن مجردَ خداعٍ بصريٍّ فحسبُ، القطُّ حقيقيٌّ، المأساةُ حقيقيةٌ، زوجتي؟ سحر بالمحبة؟ ساحرة؟ في أي دنيا نحن؟ هل أحلم؟ يا رب ليكن كل هذا مجردَ كابوسٍ ليس إلا.
رفعتُ الغطاءَ من جديد، أغلقتُ عينيَّ، لقد وجدتُّ حلًا ناجعًا وسأبدأُ من الصباحِ في تنفيذِه.
هلَّ الصباحُ فاستيقظتُ، كانت إلى جواري نائمةً تغطُّ في سُباتٍ عميقٍ، قمتُ وجلًا، غسلتُ وجهي، ارتديتُ ملابسي، أخذتُ قراري، حتمًا ستخرجُ، فإذا فعلتْ سأتْبَعُهَا خطوةً بخطوةٍ.
نزلتُ من العمارة فوقفتُ غيرَ بعيدٍ أنتظرُ نزولَها، ولم تمضِ إلا دقائقٌ معدوداتٌ ثم نزلت، كانت على عجلة من أمرها، لذلك ارتدت أول ما وقعت عليه عيناها من ملابس الخروج، وجمعت شعرها بأولِ غطاءِ رأسٍ لمحته، سارتْ مسرعةً تُغَذِّي الخطوَ الخطوَ، مضيتُ على إثرِها، إذا أسرعتْ أسرعتُ وإذا أبطأتْ أبطأتُ، حتى إذا وصلتْ إلى حارةٍ شعبيةٍ في أطرافِ المنطقةِ دلفتْ تتصبًبُ عَرَقًا وأنا خلفها، ثم لاحَ لها ناحيةً منزلٌ من طابقينِ اثنينِ، قديمُ الطرازِ، كئيبُ الشكلِ، تنهَّدتْ ودخلتْ، وقفتُ على باب المنزلِ أسترقُ السمعَ، كانت غاضبةً ثائرةً عصبيةً محتدةً، وكانت المرأةُ الأخرى رابطةَ الجأشِ ساكنةً تحاولُ تهدِئَتَها.
اتصلتُ بالشرطةِ فأعطيتها عنوانَ المنزلِ، ثم أخذتُ نفسًا عميقًا ودخلتُ.
كانت الساحرةُ تقفُ في مقابلتي بينما لم أكن أرى من زوجتي سوى ظهرها.
التفتتْ الساحرةُ بعدما رأتني.
– من أنت؟
نظرت زوحتي إلى الوراء فرأتني، استولت عليها الدهشة.
– زوجي!
– أنتِ طالق!
– ماذا؟
– كما سمعتِ.
انهارت من هول الصدمة فجلست على الأرض تصرخ وتولول كالثكلى، ولم تمض إلا دقائق وجاءت الشرطة، اقتحموا المنزل، قبضوا على الساحرة، ضبطوا مبخرةً عندها وبخورًا وأشياء كانت بالداخل ثم انصرفوا.
وما أن خلى المنزلُ إلا مني ومنها حتى نظرتُ إليها مُتَشفِّيًا:
– الحمد لله الذي أنجاني من مكرك.
– لقد أحببتك وما تمنيت من الدنيا سواك.
– فكنتِ كالتي نقضتْ غَزْلَها من بعدِ قوةٍ أنكاثًا!
– كنت أتعشمُ أن أجدَ في قلبك حُبًّا لي، حُبًّا كحبي لك أو حتى دونه، لم أكن إلا زوجةً تأنسُ إليها من حرِّ الذِّكرى، نعم كنتُ غبيةً حمقاءَ لأنني أذعنتُ لنصائحِ أمي فدلتني على هذا المكان، لكن لعل حسن النية وسلامة المقصد أن يشفعا لي.
– هيهات، ليس لك اليوم شفيع.
تركتها على الأرض وحيدةً يخيمُ عليها ذهولٌ وسكونٌ كبيرانِ، ثم خرجتُ.
وإذا بها تشقُّ جيبَها وتصكُّ وَجْهَها وتضربُ كفًّا بكفٍ كالتي جُنَّتْ، وأمامَ البابِ وقفتُ برهةً أسترقُ السمعَ، بيدَ أني لم أسمع لها حِسًّا.

قد يعجبك ايضا
تعليقات