القاهرية
العالم بين يديك

مدرسة المستقبل بين الواقع والمأمول

142

 

صباحك تكنولوجيا..بقلم د/ حنان عبد القادر محمد

تُعْتَبَر المدرسة من اَلْمُؤَسَّسَات الاجتماعية اَلْمُهِمَّة التي أنشأها اَلْمُجْتَمَع لِتَكُونَ أساس وقِيمة لتربية أبنائه وَمِنْبَرًا مُشِعًّا للعِلم وبيئة للتعلم، وهذه اَلْمُؤَسَّسَة تُنَفِّذ الأهداف التي يُرِيدهَا ويَرسمها اَلْمُجْتَمَع وفقاً لِخُطَط ومناهج مُحَدَّدَة وعَمليات تفاعل وأنشطة مُبَرْمَجَة داخل الصفوف الدراسية وخَارجها على جَمِيع اَلْمُسْتَوَيَات الدراسية والفنية والثقافية والاجتماعية والرياضية وغَيرها.

 ولما كَانت التربية هِي الحَياة، فقد اقتضى الأمر أن تَكُون المَدرسة جُزْءًا حياً نامياً، وليست معزولة عن اَلْمُجْتَمَع، وخَاصة عِندما بَدأ العَالم يَدخل القرن الحَادي والعشرين بِكُلّ ما يَشْهَدهُ من التغيرات السريعة وَالْمُتَلَاحِقَة في جَميع المجالات، التي أصبحت بِشكل أو بآخر تَنعكِس على أفراد اَلْمُجْتَمَع ساد الانطباع بأن العَالم نَتيجة اَلْعَوْلَمَة وتَزايد تأثيرها قَد أصبح عِبارة عَن قَرية صَغيرة، واشتدت اَلْمُطَالَبَة بِتَطْبِيق مبدأ تَكافؤ اَلْفُرَص اَلتَّعْلِيمِيَّة نَتِيجَة التزايد في أعداد الطلبة في المدارس وظَهرت مَرحلة جَديدة مَفْصِلِيَّة في تطوُّر البشريَّة، فلم يَعُدْ التَّعليم كافيًا للقيام بمهمَّته، وأكثر من ذلك أيضًا، إنَّ مفهوم التَّعليم قد تجَاوز نَفْسه بِطريقةٍ مَا… ذلك أنَّ الإنسان مَا يَزال مُسْتَمِرًّا في صُنْع أدواتٍ جَديدة، وفي تَحْسِينهَا، وفي اكتشاف ظواهر وتَحليلها، وفي بُلُوغ معارف وفي تعديلها، وظهرت اتجاهات جَديدة للعالم ولموقِع اَلْمُؤَسَّسَات اَلتَّعْلِيمِيَّة مِنه ودورها فِيه يُحَتِّم عليها تناول اَلتَّعْلِيم بِطَرِيقَة جَديدة، فَلم يَعُدْ اَلنِّظَام اَلتَّعْلِيمِيّ اليوم يَسْتَجِيب لِمُتَطَلَّبَات العَصر حَيث يَجب أن تَمُرّ المدرسة كما هِي الآن بتغييرات كَبيرة، لأن هُنَاكَ فرقًا كبيرًا بين المدرسة التي يَجب أن تَكون وفقًا لأذهاننا وما هي عليه اليوم.

فَمَدْرَسَة اليَوم غَير عَادلة تُجَاه اَلطُّلَّاب الأضعف الذين يَنخفِض مُسْتَوَاهُمْ بِاستمرار، وأيضًا تُجَاه اَلطُّلَّاب اَلْمُبْدِعِينَ الذين تَعجز المَدرسة عَن تَوفِير اَلْمَزِيد مِن المَعرفة والمَزيد من اَلْفُرَص لِتَطْوِير اَلذَّات. وبدا واضحاً عَدم اَلرَّبْط بَين مُخْرَجَات اَلتَّعْلِيم وَسُوق العَمل، مِما جَعل دور المَدرسة لا يَقتصِر عَلى عَملية اَلتَّعْلِيم ونَقل المَعرفة بَل أصَبح يَهدف إلى تَربية شَاملة لشخصية اَلْمُتَعَلِّم من جَميع جَوانبها، لذلك ظَهر هُنَاكَ اتجاه يدعو إلى ما يُسَمَّى بمدرسة اَلْمُسْتَقْبَل، نتيجة لما تميز به القرن الحَادي وَالْعِشْرِينَ من تَغيرات وتَطورات مُتَسَارِعَة في جَميع مَناحي الحياة الإنسانية، وَيُعَدّ اَلتَّعْلِيم الوسيلة التي تَمَكُّن الناس مِن مُوَاجَهَة هَذه التغيرات وَالتَّطَوُّرَات، لذلك يَجب أن يَكون التعليم الذي تُقَدِّمهُ مَدرسة اَلْمُسْتَقْبَل قادرا على إعداد الطلبة الإعداد اَلسَّلِيم الذي يُمْكِنهُمْ من مُوَاجَهَة التحديات والتغلب عليها.

ونتيجة لذلك وفَرت اَلْعَدِيد من اَلدُّوَل البِنية اَلتِّكْنُولُوجِيَّة اللازمة لتوظيف وسائل الاتصال وَتِكْنُولُوجْيَا المعلومات في التدريس والتعلم، فأصبح هُنَاكَ رابط بين اَلتِّكْنُولُوجْيَا وما تَحمله من إمكانات هَائلة، مع الجَانب النظري الذي تُمَثِّلهُ نظريات اَلتَّعَلُّم بِكُلّ ما تَخْتَزِلهُ مِن تَرَاكُمَات لِلْعُلُومِ الإنسانية عَبر اَلتَّارِيخ. وأصبح اَلشُّغْل اَلشَّاغِل للدول التي تٌريد اَلْوُصُول لمصاف الدول اَلْمُتَقَدِّمَة كيف يَجب أن تَبدو مَدرسة اَلْمُسْتَقْبَل؟ كَيف سَيتِم نَشر ثَقَافَة تَبنِي اَلتِّكْنُولُوجْيَا بِشكل أكبر لِتَحْسِين بِيئة اَلتَّعَلُّم، وكيف سَيكون استخدامها بِشكل إيجابي وليس بِشكل سلبي.

فمدرسة اَلْمُسْتَقْبَل مَشروع تَربوي يَطمح لبِناء نموذج مُبْتَكَر لمدرسة حَديثة مُتَعَدِّدَة اَلْمُسْتَوَيَات تَستمد رسالتها من الإيمان بِقُدْرَة اَلْمُجْتَمَعَات على النهوض وتحقيق التنمية الشاملة، مُعْتَمِدَة على جَودة إعداد بنائها التربوي والتعليمي، لذا فإن المدرسة تُعَدّ اَلْمُعَلِّمِينَ وَالْمُتَعَلِّمِينَ فيها لحياة عَملية نَاجِحَة مَع التركيز على المهارات الأساسية والعَصرية والعَقلية بما يَخدم الجَانب التربوي والقِيمي لدى اَلْمُتَعَلِّمِينَ.

وَتُعَدّ اَلتِّكْنُولُوجْيَا في مَدرسة اَلْمُسْتَقْبَل جُزْءًا رَئِيسِيًّا من الفَصل اَلدِّرَاسِيّ، وربما حَلت اللوحات البَيضاء التفاعلية محل السبورات التقليدية. ولكن يَجب أن تَظل الفَرضية الأساسية كما هِي- يَقف اَلْمُعَلِّم في اَلصُّفُوف الأمامية اَلْمُوَاجَهَة لِصُفُوف من المكَاتب التي يَجلس اَلطُّلَّاب خَلفها، بالطبع سَتُصْبِحُ كُلّ مَدرسة مُحَوْسَبَة لكن اَلطُّلَّاب الأكبر سِنًّا فقط هم مَن يَستخدمون الحَوسبة بِشكل أكبر، بَعد تَدريبهم على استخدامها بِشكل إيجابي، لأنه إذا كان الأطفال من البداية يَستخدمون أجهزة الكمبيوتر فقط، فلن يتعلموا كيفية الكتابة.

يَجب أن تتَكامل الأهداف اَلتَّرْبَوِيَّة وَالتَّعْلِيمِيَّة لجَميع مَراحل اَلتَّعْلِيم، بِحيث تَخرج جَميعها في منظومة مُتَكَامِلَة، لا ازدواج فيها، ولا تعَارض بينها، ولا تكتفي بالجوانب النظرية فقط بل تَكُون أهدافاً قَابلة للتطبيق وَمُرْتَبِطَة بالواقع ومُتغيراته وَمُسْتَجَدَّاته اَلْمُخْتَلِفَة، وإعادة اَلنَّظَر في المَناهج الدراسية حَتى تُوَاكِب عَصر التقنيات والمعلوماتية، وتكون مُتوافقة مع عملية تطوير جَوانب العَملية التربوية التعليمية بِكافة مَحاورها بِما يَخدم عَملية اَلتَّنْمِيَة. وكذلك تَصميم المَناهج اَلْمُعْتَمَدَة على التقنيات، وإعداد المناهج الإلكترونية مُتَعَدِّدَة الوسائط في اَلتَّخَصُّصَات اَلْمُخْتَلِفَة.

وبِالطبع يَجب ألا نُقلل من قِيمة اَلْمُحَادَثَات اَلصَّفِّيَّة والتفَاعل اَلِاجْتِمَاعِيّ. ولَكِن، مِن اَلصَّحِيح أيضًا أن اَلتِّكْنُولُوجْيَا تُمكّن اَلطُّلَّاب الآن من تَصْوِير مقَاطع الفِيديو وَتَحْرِيرهَا، وإنشاء بَرْنَامَج إذاعي، وَتَصْمِيم اَلْمُلْصَقَات والمَواقع الإلكترونية، وَالْمُدَوَّنَات- وَالتَّفَاعُل عَبر الإنترنت أيضًا. سَيتِم تَمْدِيد نِظام اَلتَّقْيِيم بِشكل أكبر، لأنه كُلَّمَا زادت الدرجات، أصَبح مِن الأسهل عَلى اَلطُّلَّاب الدراسة، وعَلى اَلْمُعَلِّمِينَ اَلتَّدْرِيس، وعلي الآباء مُتَابَعَة نَجاح أطفالهم. بالإضافة إلى ذلك، سَتُحَلُّ أجهزة الكٌمبيوتر والإنترنت مَحل اَلْمُسْتَنَدَات الورقية.

اَلطُّلَّاب سَيرون ويَسمعون اَلْمُعَلِّمِينَ على أجهزة الكٌمبيوتر، مع اتجاه “اَلتَّعَلُّم عَن بُعْد” في اَلْمُسْتَقْبَل. عِند الوصول إلى “اَلْفُصُول الدراسية” على أَجْهِزَة الكٌمبيوتر المنزلية، سَيتعلم اَلطُّلَّاب في الأوقات الأكثر مُلَاءَمَة لهم. ومع ذلك، فإن بَعض اَلْحُضُور في مدرسة فِعلية سَيكون مطلوبًا لِمُسَاعَدَة اَلطُّلَّاب على تَطوير المهارات الاجتماعية اَلْمُنَاسِبَة. تَحْطِيم الأسوار بَين المَدرسة وَالْمُجْتَمَع “بِكُلّ شرائحه وفِئاته، وإقامة عَلَاقَات مُجْتَمَعِيَّة مَبنية على أُسُس رشيدة بينها وبين اَلْمُجْتَمَع المَحلي بِكُلّ مُؤَسَّسَاته.

وبِغض اَلنَّظَر عن مَدى أهمية دور أجهزة الكٌمبيوتر والتقنيات اَلْأُخْرَى في مدرسة اَلْمُسْتَقْبَل، فهِي مُجَرَّد وسيلة لتحقيق الغَاية الأكبر اَلْمُتَمَثِّلَة في تَمكين اَلطُّلَّاب مِن اَلتَّعَلُّم من خِلال التفاعل مع مُخْتَلِف جَوانب الحياة. ولن يكون ذلك دون اَلْمُعَلِّم فالمعلم في مَدرسة اَلْمُسْتَقْبَل يُخَطِّط المواقف التربوية بِعناية، ويترك اَلْفُرْصَة للطالب كي يتعلم بِنفسه، يُرَاقِبهُ وَهُوَ يَبحث ويَتعلم وَيُقَدِّم له الخبرة التي يحتاج إليها، يُوَجِّه ويربي وَيُصَحِّح السلوك، يستكشف المواهب، يُعَزِّزهَا وَيُنَمِّيهَا، يهتم بالاتجاهات والقيم والمهارات كما يهتم بالمعلومات، يَحترم رأي الطالب وينمي فيه روح البحث، ويحترمه الطالب لأنه سبب في مُسَاعَدَته على التعلم.

اَلْمُعَلِّم في مَدرسة اَلْمُسْتَقْبَل يَترقى في سِلم وظيفي بِناء على ما يُقَدِّمهُ من ابتكارات وإبداعات، وما يَعتني بِه من تَطوير نَفسه وَصَقْل مَهارته، لذلك فهو أساس اَلتَّغْيِير لمدرسة اَلْمُسْتَقْبَل، ولذلك يَجب الاهتمام بِه من جَميع النواحي المادية والمعنوية وإعداده مِهنيا ومَعرفيا، وأن يتم ذلك في ضوء فلسفة تمهين التعليم، الأمر الذي سيترتب عليه تغيير النظرة إلى اَلْمُعَلِّم وإلى عملية التعليم بأكملها. فلن تَكون هُنَاكَ مدرسة مُسْتَقْبَل دون معلم.

حَان الوقت لإدخال تَغْيِيرَات جَذرية وإعادة التفكير في مناهج التعليم بِشكل عَام، إذ يجب أن يَكُون التعليم عملية تفاعلية ممتعة قابلة للتكيف مع احتياجات كُلّ فِئة وشَخص، توظف التطورات اَلتِّقْنِيَّة، وَتُعِيد تَعريف دور المدرسة والهيئة التعليمية، ما سينعكس على مواصفات المدارس ومهارات اَلْمُعَلِّمِينَ وَقُدُرَاتهمْ وطبيعة المناهج وأهدافها… هل سيتحقق حلم مدرسة اَلْمُسْتَقْبَل أم لا.. وللحديث بقية،،

قد يعجبك ايضا
تعليقات