بقلم / نيرة رزق
يَفْتَحُ عَيْنَيْهِ صَبَاحًا فِي فَزِع وَيَنْظُر حَوْلَه، وَيَجِدُ نَفْسه فِي غُرْفَتِه كَمَا هُوَ وَكُلُّ شَىْء فِي مَكَانِهِ، إلَّا هُوَ فَإِنَّهُ مَا زَال يَسْقُطُ فِي ذَلِكَ الْحِلْم اللَّعِين وَلَا يَدْرِي السَّبَبَ، ولأَوَّلِ مَرَّةٍ مُنْذ فَتْرَة يَنْهَض مِنْ مَكَانِهِ وَيَتَّجِه لِلْحَمَّام مُسْرِعًا وَيَرْمِي بِرَأْسِهِ تَحْتَ الْمَاءِ حَتَّي يَغْرَق نَفْسِهِ، ثُمَّ يَرْفَعُ رَأْسَهُ وَيُشْعِرُ بِالْأَلَمِ فِي رَأْسِهِ بِشَكْل قَوِيٌّ وَكَأَنَّه تَعَرَّض لِتِلْك الضَّرْبَة الْآن، وَيَنْظُرُ لِانعكاسهِ فِي الْمَرْآةِ وَتَسْقُط دَمْعَةٌ مِنْ عَيْنَيْهِ وَيَخْرُج مُسْرِعًا وَيَجْلِسُ عَلَى الأَرْضُ وَيُضَمُّ رُكْبَتَه إلَيْه وَيَضَعُ يَدَيْهِ عَلِى رَأْسِهِ وَيَبْدَأُ فِي التَّفْكِيرِ.
فِي الْبِدَايَةِ يَظُنُّ أَنَّ عَقْلَهُ يَتَلَاعَبُ بِهِ أَوْ رُبَّمَا تَكُونُ الْآثَارُ الجَانِبِيَّةُ لِلْعِلاجِ الَّذِي يَتَلَقَّاه تَجْعَلُه يرى هلوسات أَو خَيَالَات، وَلَكِنْ كَيْفَ للخيالات أَنْ تُجْعَلَ الْآلَام الَّتِي يَشْعُرُ بِهَا حَقِيقِيَّةً؟ وَتَذَكَّر الْمُمَرِّضَة الَّتِي عَالَجْت جَرَحَه بِالْأَمْس، وَهَكَذَا تَأَكَّد أَنَّ مَا يَحْدُثُ لَهُ لَيْسَ بِحِلْم وَلَا خَيَالٍ بَل مُحَاوَلَةً لِجَعْلِه يُفْقَد عَقْلَهُ أَكْثَرَ.
لَمْ يَكُنْ يُفَكِّرُ فِي نَفْسِهِ أَوْ فِي مَا يَحْدُثُ مِنْ حَوْلَهُ مُنْذُ وَقْتِ طَوِيلٍ، لَكِنْ الْحِلْم الَّذِي رَآهُ بِالْأَمْسِ أَوْ رُبَّمَا الْوَاقِعِ الَّذِي عاشه دُونَ أَنْ يُدْرِكَ جَعَل عَقْلُه يَنْبِضُ بِالحَيَاةِ مَرَّة أَخِّرِى، لِيَبْدَأ فِي مُحَاوَلَةِ فَهْمِ مَا يَحْدُثُ وَيَجِد نَفْسِه يَتَحَرَّك لِلْإِمَام بِشَكْل مُضْطَرِبٌ كَمَا هُوَ الْمُعْتَادُ.
كَانَ لَا يُوجَدُ مَا يَخْسَرُه أَكْثَرَ فَهُوَ خَسِرَ عائِلَتَهُ وَزَوْجَتَهُ وَأَوْلَادَهُ وَعَمَلَهُ وَكُلّ شَيءٍ، وَكَان مَصِيرُه مستشفى الْأَمْرَاض الْعَقْلِيَّة، وبرغم يَقِينِه بِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَجْنُون وَلَكِنَّه اِسْتَسْلَم، وَالْآن هُنَاكَ مَنْ يُحَاوِلُ إثْبَات جُنُونِه حَقًّا.
” فلاشباك ”
يَفْتَح الْبَاب الْأُسْتَاذ / أمِين عَلِيُّ مُدَرِّس اللُّغَة الإنْجلِيزِيَّة وَيَدْخُل لِمَنْزِلِه الَّذِي يَعِيشُ فِيهِ مَعَ زَوْجَتِهِ وَوَلَدِه وَابْنَتُه، الْأُسْتَاذ مُحَمَّد رَجُلٌ بَسِيطُ يَعْمَل بِجِدّ ويسعي كَى يُؤْمِن مُسْتَقْبِلًا جَيِّدًا لِأَوْلَادِه، كان حَرِيصًا عَلِى نَفْسِه وَصِحَّتَهِ وَصِحَّةِ أَوْلَادِه كَيْ لَا يَتَعَرَّضُوا لِلْمَرَض، وحريصًا عَلى أَمْوَالِه، هُنَاكَ مَنْ يُسَمُّونَه ” بَخِيلٌ ” وَذَلِكَ بِسَبَبِ حِرْصُه الزَّائِدِ، إلَّا أَنَّهُ كَانَ لَا يَهْتَمُّ لِأَحَد، فَإِنَّه عِنْدَمَا فَقَد وَالِدَيْهِ وَهُوَ صَغِيرٌ بِسَبَب الْإِهْمَال الطِبْي لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَمْلِكُون الْمَال لِلذَّهَاب لمستشفى أَفْضَل، وَبِسَبَب ذَلِك فَقَدُوا حَيَاتِهِم، وَمَن يَوْمِهَا قَرَّرَ أَنَّ يُغَيِّرَ مَصِيرَه وَأن يُحَافِظ عَلِى أَمْوَالِه مِنْ أَجْلِ الأزَمَات فَقَط، وَتَمْر الْأَيَّام وَيكبر أَوْلَادُهُ وَلَكِنَّهُم يتمردون عَلِى تِلْكَ الْأَوْضَاع، إلَّا أَنْ وَالِدَهُم لَمْ يَكُنْ يُسْتَجَيبُ وَلَا يَسْتَمِعُ لَهُم.
ذَاتَ لَيْلَةٍ فِي مُنْتَصَفِ اللَّيْلِ اسْتَيْقَظ كَي يَشْرَب وَنَظَر بِجَانِبِه وَوَجَد زَوْجَتَه عَيْناهَا مَفْتُوحتان وَلَا تَتَنَفَّس، نَهَضَ فِي فَزِع وَرَكْضٌ إلَى جَانِبِه أَوْلَادِه، تَمّ دَفِنُ زَوْجَتِه وَشَرِيكِةِ حَيَاتِه الَّتِي كَانَ يُحِبُّهَا حَتَّى لو لم يُخْبِرْهَا، أَصْبَحْت ابْنَتَه لَا تَتَحَدّثُ وَأَغْلَب الْأَوْقَات تَقْضِيهَا فِي غُرْفَتِهَا وَحْدَهَا، شَكّ الْأَبُ فِي أَنَّ ابْنَتَهُ مَرِيضَة بَعْدَ أَنْ فقدتْ وَالِدَتِهَا، وَاقْتَرَح عَلِى ابنهِ أَنَّ يَقُومَ بِنَقْلِهَا للمستشفى حَتَّى تتحسن أَوْ رُبَّمَا وُجُودِهَا فِي هَذَا الْمَنْزِلِ أَثَر عَلَيْهَا، إلَّا أَنْ الِابْنَ رَفَض بِشِدَّة وَاتَّهَمَه أَنَّهُ يُرِيدُ التَّخَلُّصِ مِنْ أُخْتِهِ مِثْلَ مَا قَتَلَ وَالِدَتَه!
صُدِمَ الْأَبُ مِنْ كَلَامِ ابْنِهِ وَشَكِّه أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ قَتْلَ زوجتَهُ وَأُم أَوْلَادِه، وَلِذَلِكَ لَمْ يُحَاوِلْ أنْ يَقْتَرِبَ مِنْ ابْنَتِهِ خَوْفًا مِنْ ظَنَّ ابْنِه بِه.
وَبَعْد عِدَّة أَيَّام اسْتَيْقَظ عَلِى أَصْوَات صُرَاخٍ قَوِيَّةٍ قَادِمَةٍ مِنْ الْغُرْفَةِ المجاورةِ لَه، جَعَل الصَّوْت قلبَه يَنْتَفِض بِقُوَّة، وَرَكْضٌ إلَى الغرفةِ الَّتِي كَانَتْ غارقةً فِي الظلامِ، وَمَا إنْ فتحَ النورَ بجانبهِ حَتَّى َوجد ابنَهُ الصغيرَ ساقطًا عَلَى الأرضِ غارقًا فِي دمائِه إثرَ ضربةِ سكينٍ قويةٍ تعرضَ لَهَا، وَكَانَت السكينُ ملقاةً عَلَى الأرضِ بجانبِهِ، وَكَانَت الدماءُ تتساقطُ بقوةٍ دونَ توقفٍ، أمسكَ الأبُ السكينَ وأبعدَها فورًا، وحاولَ وضعَ قطعةِ قماشٍ بيضاءَ اللونِ مكانَ الجرحِ لوقفِ النزيفِ.
وَبَيْنَمَا كَان الأبُ يجلسُ بجانبِ رأسِ ابنهِ فِي عجزٍ ويداهُ مليئتانِ بالدماءِ، مَدّ ابنُهُ يَدَيْه وأمسكَ يدَ وَالِدِه، وهمسَ لَه
” أَبِي سامحني” ..
وَقَبْلَ أَنْ يجيبَ الْأَبُ عَلَيْهِ فَقَدْ ابْنَهُ أمامه، ثُمّ تَعَرَّض لِضَرْبَةٍ قَوِيَّةٍ عَلِى رَأْسَه جَعَلَتْه يُفْقَد الْوَعي ..
” إلي اللقاء في الجزء القادم “
رئيس مجلس إدارة جريدة القاهرية