القاهرية
العالم بين يديك

حديثُ النَّفْسِ

116

كتب- حسن محمد 

أعرفُ أنك لستَ على ما يرام، أعرف أنك تخوضُ كلُّ يومٍ معركة مع الحياة؛ فالفائزُ بها يأسُكَ والخاسرُ منها نفسُكَ..
أعرفُ مرارة خيباتكَ التي مررت بها، أعلم أن حزنك عظيمٌ.. تفكيرك مزعجٌ كنعيق الغِرْبان.. خطرٌ كالفحيح.. سامٌ ومميتٌ كلدغة الأفاعي..

أعرفُ أنك مرهقٌ من طول الطريق، من الركض خلف أحلامك الغامضة، الضائعة منها والهاربة، أعرف أن النوم هجركَ، كما فعل الكثيرون من قبل، وترك الأرق، مثلما خلّف الأحبابُ الجراحَ. يا صديقي، لم يتخلَّ النومُ عنكَ، لأنك الرجل الأكثر ذنوبًا -كما زعم كافكا- بل لأنك الأكثر صدقًا، لومًا وإيلامًا.. والأشد حبًّا.
أدركُ خوفكَ أن يسلبك الموتُ حبيبا آخر.. قلقكَ من تكرار شعور الفقد، خِذلانكَ مِمَّن حولكَ، وقلّة ثقتكَ وإحباطك تجاه الجميع..

جاءت تلك اللحظة التي..

تسمعُ جدرانُ غرفتك صراخكَ الصامت، ترى حروفُ كتاباتك دموعكَ وسط الصَّفحاتِ؛ فلا أحدٌ يسمعكَ ولا تُرى..
تهرول الفِئْرانُ في الأزقة لمشيتك المسرعة، تتوقف العصافيرُ حبيسةَ القفص عن التغريدِ، تصمت الديكةُ -التي تُنذِرُ بفجرٍ وميلاد جديدٍ لشمس مشرقةٍ- عن الصِياحِ.

إلى متى عُصْفور قلبكَ سيظل حبيسًا ووحيدًا؟ هل يريد عصفورة تشاركه وحدتهِ أم يريد حريتُهُ؟ متى ستطلق العصفور من صدركَ حتى يُرفرِفَ ويُزقزِقَ؟

أنا أشعرُ بك يا صديقي..

لأ أجهل هروبك المستمر من الواقع إلى حياة الخيال والوهم، كم أنت واهم يا صديقي!
كان الرافعي صادقا حينما قال: «ثم خفف الله على الإنسان؛ فأودع فيه قوة التخيُّل، يستريح إليها من الحقائق؛ فإذا ضجر أهل الخيال من الخيال، لم يُصلحهم إلا الحب.»، فأين نحن من الحب يا رفيقي؟

أسمعك تحدثني عنها على الرغم من صمتك!، بالطبع يا أحمق أعرف من هي، وبرغم فعلتك الشنيعة(في حبك لها أكثر من نفسك)، لم أكنُّ حقدا أو كراهية، بل حملت الغِبطة؛ بيد أني لم أُرِد زوالها. وعليه تمنيت بقائها مثلك للأبد!، ولو تحرّرنا الصدقَ، لقلنا إنها تركت فيك ثلاثا: قلبا أحبها بصدق؛ فتحقق وجودك، وفهمت كينونتك وبحرت داخل أسرار غموضك، فانكشف ما خفى، ثم تراءى ولمع.
جرحا دفينا، «وتركت مع هذين اسمها الذي أحفظها فيه بجملتها، وقد يحسم الداء(أي تنقطع مادته ويبرأ) ولكن اسمه يبقى داء ما بقي..».

يا صاحبي، إني أجدُ في صمتكَ سكونَ المقابر، على الرغم من هدوئها؛ لكنها تعجُّ بالعذابِ والصُّراخِ، والهدوء والراحة أيضًا، ولنتغاضى عن الهدوء والراحة!
إن قلبكَ مقبرةٌ؛ دُفن فيها حبُّكَ، ومنها تحلَّلت أوتار أملكَ، واحترقت أعصابكَ بنيران الشَّوقِ، وضاق صدرك من التفاف حبل الحنين. فهل صعبٌ لهذه الدرجةِ تحلل ذكراها؟!

هل سيفرِّقُ صِياحُ الديكة(الأمل) في مدينةٍ تشتعلُ بالحريقِ؟
إن المدينةَ تحتاجُ إلى أمطار لتطفئها، أمَّا عن الرمادِ الذي صار، فكيف ترجعُ الأشياءُ كما كانت؟!
إن صمتكَ كالماءِ تظن أنها ستُطفئُ الحريق، لكنه يشعلُ نيران قلبكَ، تحترق في صمت تامّ، نيرانٌ بلا لهبٍ وحريقٍ بلا دُخان؛ ومع ذلك أشعر بك..

أنا أشعرُ بك يا صديقي..

أشعر بحطامكَ، بفقدان شغفك وخوفكَ من نيران أُخرى -غير تلك التي اِنطفأت بداخلك- تحول ما تبقى منك إلى رماد، وأسمعك تقل ساخرا: هل بقي لي شيءٌ لكي أخافَ عليهِ؟

نعم، هناك شيء تخاف عليه، فلمَ تخفي الطفل بداخلك؛ وهو الأمل.
تلك الليلةُ الأخيرةُ بيننا -التي صارحتني فيها برغبتك في الانتحارِ- كانت غريبةً، لمحت شيئا عجيبا في عينيك -وربما ظننتَ أنني أسخرُ منك كالعادة- رأيته وقتما حدقت بهما إذ أرى وجهًا مُرعبًا؛ نصفه الأول طفلٌ يبكي والنصف الآخر رجلٌ يضحك، والفرقٌ بينهما؛ أنه لا فرق. فكلاهما يُعاني، وكلاهما أنت ياعزيزي.

أنا هنا، أنا نفسُكَ التي تميل ولا تملّ.
هيهات هيهات أن يفهمك أحد، وفي ذلك حُلمٌ بعيد، مثلما أفهمك؛ «أنا غريب عن هذا العالم؛ فليسَ في الوجودِ من يعرف لُغة نفسي.»

* * *

آهٍ، الويْلُ كله منكِ؛ أيتها النَّفْسُ، رجاءً كُفّي عن التفسير والتحليل.. كفاكِ لوما وسؤالا، فإن حديثك طال كصمتي..
آهْ من ذكرى المحبوبة!، فإنكِ أنكأتِ جرحًا قديمًا لم يبرأه الزمان.
آهْ، أليس مرور الزمان يداوي الجراح؟
بلى، لكنها كانت تطبِّبُ الآلام، وهي التي لم تدرس الطِّبِّ!
تعرّب أعجميتي، وهي الجاهلةُ بعلوم اللغة، العالمةُ بلُّغةِ الحبِّ.
كانت تُهذِبُ فوضويتي؛ فأعرِفُ النِّظامَ..
تحلُّ عُقدة لساني؛ فأسامِرُ الفَضْفَضَة..
تُهَنْدِمُ كَرمشة مزاجي؛ فأدركُ الاعتدالَ..
تُلمْلِمُ كركبة نفسي؛ فأصاحِبُ الاستقرارَ.
كانت تهدأ ضجّة وجلبة عقلي؛ فأحِسُّ الراحة.
فهي فعلُ الطمأنة، نعْتُ الجمال، وحال الآمان..

قد يعجبك ايضا
تعليقات