بقلم الأستاذ الدكتور _ عادل خلف عبدالعزيز استاذ الفلسفة الإسلامية ورئيس قسم الفلسفة بآداب حلوان.
فبعد أن استعرضنا مكانة العقل في الفكر المسيحي، وكيف دافع الدكتور جورج طرابيشي عن العقل بموضوعيته المعروفة داحضا فريات وشبهات بعض المستشرقين.
من أن الفلسفة العربية فلسفة ترزح تحت ميثودولوجيا الوهم والخرافات والخزعبلات وان العرب سواء مسلمين او مسيحيين كان تفكيرهم عاطفي مستمد من كتبهم المقدسة.
وهذا ما ارفضه كما ذكرت سالفا انه ليس ثم تعارض بين العقل والنقل، ولكنها ذريعة تزرع بها بعض الغرب غير المنصف احياءا لفكرتهم الممقوتة ان الفلسفة والتفكير الفلسفي خلق عبقري يوناني أصيل -لا ننكر ما قدمه الغرب اليوناني للفكر الانساني عامة والفكر الفلسفي علي وجه الخصوص.
لكن ليس معني ذلك ان تتهمني بالتبعية والنقل والتقليد فالغرب رجال ونحن رجال لا نساير الخطوة بالخطوة والنعل بالنعل، وانما لنا فكرنا الخاص بنا وشاهدي علي ذلك استمرار وبقاء مؤلفات اساطين الفكر الفلسفي العربي الي الان.
ظاهرة التاثير والتاثر ظاهرة محمودة في الفكر الانساني لكن المرزول ان يتهمنا بعض المستشرقين غير المنصفين بالتبعية وكأننا محكوم علينا بان نكون الصبيان وهم الاسطوات علي حد قول الدكتور:حسن حنفي .
هم الذين يفكروا لنا ونحن المتلقون وتلك قسمة ضيزي باطلة ، يا سادة من يدعي ان الفلسفة العربية فلسفة يونانية كتبت بأحرف عربية.
فليس معني ان هناك مقاربات فكرية وفلسفية بين اراء فلاسفة العرب واراء فلاسفة اليونان، لكن ليس معني هذا اننا نقلة ومقلدين فالفلسفة العربية فلسفة حرة مستقاة من ائمتها واساطينها .
وسنفرد مقالا كاملا عن ظاهرة التأثير والتأثرفي الفكر الإنساني.
والآن نطوف بكم حول مكانة العقل في الفلسفة العربية في بلاد المغرب والاندلس .
هاجرت الفلسفة من المشرق الي المغرب هروبا من الاضطهادات المستمرة من رجال الدين والفقهاء، ظنا من ائمتها انهم سيجدون ملاذا آمنا في بلاد المغرب، لكن الحال في المغرب لا يقل سوءا عن المشرق.
فقد تعرضت الفلسفة في بلاد المغرب ايصا الي حملات اضطهاد مع ذيوع الفقه المالكي وانه لا يقرب من الامير الا اصحاب العلوم الشرعية، بل وبلغت كراهية الفلسفة ذروتها في عهد المنصور بن ابي عامر احد امراء الطوائف فقام باحراق كتب الاوائل والقائها في آبار القصر.
ولكن ثم سؤال كيف انتقلت الفلسفة من المشرق الي المغرب؟!
انتقلت عن طريق الرحلات العلمية المتبادلة حيث بدأ الناس يرتحلون منذ القرن الرابع الهجري من الاندلس الي اماكن الشرق الاهلة بحلقات العلم ودروس المشاهير من العلماء والفلاسفة فدخلت بذلك كتب اخوان الصفا،
وكتب ابو سليمان السجستاني المنطقي، وبدأ تاثير الفارابي يظهر،وعرفت كتب ابن سينا وخصوصا كتابه القانون في الطب ،وكما ذكرت سالفا فعلي الرغم من انتقالها للمغرب الا انها لاقت ما لاقته من قهر واضطهاد مثل ما لاقته في المشرق.
انقسم المغرب الي تلاثة فترات :عهد بني امية وملوك الطوائف، فترة حكم الموحدين محمد بن يوسف بن تاشفين، وفترة حكم المرابطين وهذه الفترة هي مرحلة النضوج العقلي للفكر الفلسفي العربي في بلاد المغرب، فترة حكم محمد بن تومرت .
وعلي الرغم من ان هذا الرجل اشعري المذهب متأثرا بالغزالي الا انه تميز بعقلانيته التي بدت واضحة عند مخالفته للغزالي في مسألة تكليف الله للعبد مالايطيق اذ يري الغزالي ان الله في استطاعته تكليف العبد مالا يطيق من اعمال.
إلا أن ابن تومرت رفض عقلا هذه الفكرة فكيف يكلف الله عباده مالا يطيقونه.
وبعد ذلك بدأ الفكر الفلسفي ينضج في بلاد المغرب فنجد ابن سيد البطليوسي الذي حاول التوفيق بين الفلسفة والدين وانهما لا يتعارضان.
وأنه قدم ادلة عقلية اعلاء لقيمة العقل أثبت خلالها وجود النفس الإنسانية أدلة أقامها علي أساس عقلي صرف .
وإن كان قد قدم أدلة نقلية علي ذلك داحضا فكرة أنه ليس ثمة اتفاق بين الشرع والفلسفة،
ثم ظهر بعده رائد الاتجاه العقلاني ومؤسسه الفيلسوف ابوبكر بن الصائغ ابن باجه الذي اعترف بفضله ابن رشد قائلا تتلمذت علي مؤلفات ابن باجه العقلية.
ابن باجه الذي لم يعترف في طرق وصوله الي الحقيقة لم يعترف الا بالعقل وليس هناك الا حدس واحد هو الحدس العقلي ناقدا ماذهب اليه الغزالي من القول بالذوق والمشاهدة والكشف.
بل وله رسالة أطلق عليها رسالة الاتصال بالعقل الفعال الذي لا يتأتي لأحد الوصول إليه إلا من عاين وعاش التجربة العقلية عن طريق ما اسماه تدبير المتوحد الانسان الذي ينغلق علي ذاته في خلوة عقلية يصل من خلالها الي العقل الفعال.
ويدرك عقلا كنه الحقيقة، وإذا ما تركنا ابن باجه سنجد ابو بكر بن طفيل وقصته الشهيرة حي بن يقظان وكيف وصل حي الي الاتصال بالعقل الفعال لا عن طريق التصوف وانما عن طريق العقل .
وكيف وصل إلى معرفة أطوار خلق الإنسان عن طريق العقل فهو القائل وعن طريقه أي العقل هدينا إلى المعرفة وأرقى أنواع المعارف ما يكوني مبناها علي العقل.
ثم إذا ما وصلنا إلى الشارح الأعظم فيلسوف وفقيه قرطبة ابن رشد ،.
نجد أن العقلانية قد اكتملت أركانها عنده فجل مؤلفاته وخصوصا تهافت التهافت اقام صرحه علي اساس عقلي مقارعا الغزالي الحجة بالحجة والرأي بالرأي .
ليس هذا وحسب بل في شروحاته لأرسطو ولمؤلفاته يشيع فيها روح العقل، حتي كتابة مناهج الأدلة في عقائد الملة يوفق بين الفلسفة والدين عقلا ونقلا وأنهما ليس ثم صراع بينهما.
بل يقول الفلسفة والشرع متحابان طبعا متقاربان بالعقل،ثم نجد عقلانية ابن رشد واضحة جلية في كتابه فصل المقال وحديثه عن قوانين التأويل العقلي وتعريفه للتاويل وتفرقته بين التفسير والتأويل ليس هذا وحسب بل وفي حديثه عن صنوف الطالبين .
وتفرقته عقلا بين الخطابيون والجدليون والبرهانيون ، فضلا عن ذلك كتابه في النفس وحديثه عن خلود النفس وادلته العقلية.
وإلى غير ذلك من الموضوعات التي أعلى من خلالها شأن العقل ورفعه مكانا عليا،،،هذا بالنسبة لمكانة العقل في الفلسفة العربية، خلال ثلاث مقالات متتالية طوفنا بحضراتكم حول موقف فلاسفة العرب سواء المشارقة او المسيحيين او المغاربة من العقل وكيف اهتموا به ووضعوه في منزلة تليق به ولم لا وهم اهل الفكر الخصب الذي لا ينضب معينه.