بقلم/محمود أمين
لحظة واحدة أمام عينيها، تسرب معها كل ما بنى به قوام نفسه، عاد كالطفل الصغير ترمح الذكرى في قلبه الصغير، فتأثير الذكرى على قلب الصغير هو كأثير العصارة الخضراء في عروق الشجرة، أما الكبير فالذكرى تبعث حيرتين: حيرى عدم اقتناص الفرصة لو ذهبت، وحيرى تذهب معها النفس حسرات لو كان أقدم وضيعها.
الحب إذا بدأ بنظرة لا ينتهي إلا بمثلها؛ أما الأولى فهي أول النباهة ولذة المعرفة ولكن لا تُفسر إذ محلها القلب، والأخيرة هي نظرة كنظرة شاعر على ما تبقى من أطلال دوارس من مرابع قومه، والوقت بين النظرتين عمر بلذته، فالدقيقة عند الحبيبين لا تساوي في مدتها الدقيقة عند أهل الدنيا بل هي تساوي كل الدنيا بنعيمها وزينتها.
العين للعين تقول وترسل ما عجز اللسان عن النطق به، ولو قال الشاعر: والعينُ تعشقُ قبلَ القلبِ حيانا؛ لصَدق وصُدِّق ولكنه آثر الأُذُنَ، لكن الشاعر حفظَ الله بصره عن رؤيا الدنيا ومتاعها فلم يدرك المعاني إلا بما أنعم الله عليه من حواس، وإذا تقدم أصناف المودة مودة الروح، فإن الحب بين العين والعين تأتي بعدها، إذ حب الروح لا يكمل في حقيقته إلا للصالحين الربانيين، فمذهب حب العينين سهام قاتلة ولا تكون إلا لصنف بسيط من الناس هم المتأملين، ولقد تفانى الشعراء في هذا الوصف فقال جرير:
إن العيونَ التي في طَرْفها حورٌ ** قتلنَنا ثمّ لمْ يُحيينَ قتلانَا
يصرعنَ ذَا الُّلبِّ حتى لا حراكَ بهِ ** وهنّ أضعفُ خلقِ اللهِ إنسانَا
ولقد أشعلت هذه الأبيات الغيرة بين الشعراء، وأيقظت ذكرى المحبين خاصة، فأنت لا تكاد تدخل قصيدة للشعراء العذريين إلا وجت فنون القول تلتف حول تقديسهم لنظرات من يحبون والتفاتتهم كأنهم يرون بعين شاعريتهم ما لا يراه الناس؛ فقال جميل بثينة:
لها مقلةٌ كحلاءُ، نجلاءُ خلقةٌ ** كأنَّ أباها الظبيُ وأمَّها مَهَا
دهتني بودٍ قاتلٍ وهوَ متلفِي ** وكمْ قتلتُ بالودِّ مِن ودِّها دَهَا
ومن شرق الأرض حيث استقر جرير وزبانية، كان في مصر من بعدهم قُبة تُضرب لابن سناء الملك فقال:
يا ناعسَ الطرفِ لا واللهِ ما انتبهتْ ** فيكَ المحبةُ إلا وقتَ نعستِهِ
وكاسرَ الجفنِ إِي واللهِ ما انكسرتْ ** فيكَ الجوانحُ إلا بعد كسرتِهِ
ما لحظُ عينيكَ إِلّا شاربٌ ثملٌ ** وكسرةُ الجفنِ إلا عينُ سكرتِهِ
والسكوت لا يحلو إلا أمام العين إجلالا لجمال أو تقديسا لصلاة العين إلى العين، فقد يكون الله قد خلق لهما لغة حوار ونحن لا نعلمها، وما زال الكتاب يطوفون طوفان النحل بين زهرات الحدائق يقطفون زهرات اللقاء ويعبرون بألسن الناس عن مكنون صدورهم، والمحب الصامت أشد ظلما لنفسه ولمحبه، وما ذكر التاريخ وخلّد إلا المحب المتكلم، وقد نسجل هذه الذكرى بلذة اليوم ومرح اللحظة الحالية، ولكنها تتحول غصة إذا عدنا إليها بالقراءة المجحفة إذ اختلف التوافق بين الحالة الشعورية والقراءة الحالية، والقول لا يحسن ولا يكون جميلا إلا إذا صادف هوى في نفس قارئه، ولكن تبقى الذكرى بقاء الحياة في الأرض.