القاهرية
العالم بين يديك

ذات_الرداء

112

حنان فوزى عبد الحافظ
قصة_قصيرة
هرولت خلفه ضاحكة غير مصدقة ما أنا فيه، جذبني مسرعا وهو يهتف:
-هيا معي يا صغيرتي، اليوم سنشتري كل ما تبغين.
ابتسمت وشددت قبضتي على يده، طوال أعوامي الأربعة عشرة لم يفعلها والدي يوما، كان دائما ما ينزعج من طلباتي فإذا به اليوم هو من يصحبني معه، كانت سعادتي كعصفور يستخدم جناحيه بنجاح للمرة الأولى.
وقفت أتطلع إلى المرآة فطالعتني أخرى تشبهني، تنظر إليَّ بعيني العسليتين وقد ارتسم الفضول بهما، بينما تتناثر خصلات شعرها الفاحم الذي مسته يد مصفف الشعر للمرة الأولى فاستكان محدثا تموجات رائعة تصل حتى خصر تلك الفاتنة، قبضت يدي أمام صدري أخفى بوادر أنوثتي التي أبت إلا أن تعلن عن نفسها بوضوح في ذلك الثوب الذي انتقاه هو.
ذكرتني فاتنة المرآة بنجمات التلفاز فالتففت حول نفسي لتتطاير أطراف ثوبي في سرعة تسابقها خصلات شعري وانتصرت عليهما شرائط الثوب اللامعة.
لمحت العيون وهي تتابعني بإعجاب فشعرت بالفخر وتلاحقت أنفاسي عندما لمحت عينان بنيتان تنظران لي بلهفه، كان يرتدي ملابس طلبة الثانوي ويبتسم بانبهار، شعرت بالحرارة تشعل وجنتي والتفت له بابتسامتها لمحها أبي فجذبني إليه مسرعا وهو يقول:
-هيا سنتأخر، سنستقل سيارة أجرة حتى لا تَفسد زينتك، لكننا سنعرج إلى مكان هام أولا، تبعته بصمت وعيناي معلقتان بفارسي الصغير الذي راح يتضاءل حتى اختفى سريعا.
جلست بجانبه في سيارة الأجرة ورحت أمُس الحقيبة التي يحملها بشوق، للمرة الأولى بحياتي أرى الحاسوب المحمول ويمكنني أن ألمسه، يبدو أن والدي قد وجد صديقاً من عِلية القوم ليُقرضه كنزا كهذا.
لم نكد ندلف للمنزل حتى صرخت أنادي أمي لتراني وأتباهى أمام أختي التي راحت ترمقني بغيظ وهي تقارن ثوبها الرث بثيابي الأنيقة، إنها حمقاء صغيرة لا تريد الاعتراف بعام كامل أكبرها به فتطالب بالمساواة دائما.
ابتعدت عنهما عندما جاء صوته يهتف لألحق به، كان قد وضع كنزه الصغير على المنضدة المتهالكة وشرع في العمل عليه.
ما أن اقتربت منه حتى أمسك هاتفه المحمول وراح يلتقط لي الصورة تلو الأخرى، غمرتني السعادة وأنا ألمس اهتمامه للمرة الأولى، لكنه كان مبالغا، مبالغا إلى حد عجيب، لماذا يقترب كثيرا كأنما يصور كل موضع بمفرده؟!
جذبني لأجلس جواره وعاد هو لما يفعل، تابعت عيناي الشاشة باستمتاع، إنه يفتح (الفيس بوك) وكنت أعرفه جيدا، بل لقد أنشأت حساب باسمي عليه من هاتف إحدى صديقاتي، سأطلب الصور الجديدة من أبي لأنشرها عليه، رسمت الفكرة الابتسامة على وجهي، أخيرا سأجد ما أتفاخر بها كزميلاتي، سيعرفون جميعا أني الأجمل ويرون عدد من سيضعون القلوب الحمراء لصورتي.
أفقت من أفكاري على أبي وهو يبدأ بثا مباشرا، حاولت أن أنهض مبتعدة لكنه جذبني لأعود لجواره، ورأيته بعينين عاجزتين عن الفهم يكتب: “للزواج، لأعلى مهر”
لم أفهم عمن يتحدث، من سيتزوج ومن سيُمهِر هل سيعمل أبي خاطبه؟
تابعت عيناي الذاهلتين الأرقام التي راحت تتراص في سرعة عجيبة، ألف دولار، ألفان، أربعة آلاف دولار.
دولار، لا أتذكر أني رأيته يوما، ربما شاهدته بالتلفاز ليس إلا ولكن ما ذلك الذي يُقدر بآلاف الدولارات، يا له من شيء ثمين!
عُدت أُتابع ما يحدث أمامي، أضاف أحدهم خمس بقرات وخروفين، سنأكل الكثير من اللحوم إذا في الفترة القادمة، فقط لو أفهم ما الشيء الذي يساوي كل هذا؟
أغلق الحاسوب وابتسامة سعادة تتألق بوجهه قبل أن يهتف بصوت مرتفع قوي
-فلتتجهزوا جميعا لدينا ضيوف غدا مساء.
أصر هو على أن أرتدي نفس الثوب مرة أخرى، لا أريد أن أُفسده، أريد أن تراه صديقاتي، لم أفهم أبدا نظرات أمي الذابلة ولا عيونها الدامعة وهي تلاحقني طوال اليوم.
مساءً حضر رجل ضخم راح يرمقني بنظرات مقيتة، كرهت وجوده فهممت بالإسراع للداخل لكن قبضة أبي منعتني وهو يجذبني لأجلس بجانب هذا البغيض الذي وضع يده على ركبتي فرفعت عيناي أناشد أبي أن يتصرف، لكني وجدته مبتسما بسعادة بينما ينقده الرجل بيده الحرة الكثير من المال ثم يعطيه ورقة التي بادر هو بتوقيعها سريعا وهو يقول بابتسامه واسعة:
-مبارك.
ثم التفت لي قائلا بنفس الابتسامة:
-هيا لتذهبي مع زوجك يا حبيبتي.
نقلت نظري بينهما برعب، من زوجي وكيف يكون ومتى أصبح؟
لم يمهل أيهما تساؤلاتي الجزعة، جذبني ذلك الغريب إلى صدره بغيض الرائحة، حاولت أن أتملص مبتعدة وأنا أهتف بوالدي أساله الحماية لكنه أدار وجهه مبتعدا وسمعت صرخات أمي وبكاءها المحموم من الداخل، لماذا تبكي، أنا قادمة إليك يا أماه، حاولت الهروب لكنه أحكم ذراعيه أكثر حولي وراح يجرني جرا، صرخت فنهرني أبي في غضب لألجم صوتي.
بجانبه في تلك السيارة العتيقة رحت أرتجف كورقة في يوم عاصف، لم يتوقف عن الحديث طوال الوقت ويداه تتلمسان طريقهما إلى جسدي ولم أتوقف أنا عن محاولة الفهم ناظرة له برعب، منتظرة انتهاء هذا الكابوس، بالتأكيد هذا لا يحدث لي ووصلنا.
أقف في تلك الغابة المهجورة العجفاء أراقب ذلك الذئب الأجرب وقد التمعت عيناه الحمراوين باشتهاء وتساقط الزبد من شدقيه، أقترب مني هاجما، مزع ردائي الأثير، رحت أصرخ وأنا أشتم رائحة أنفاسه الكريهة، كانت قدماي أكثر يقظة فحاولتا الهروب لكنه أحكم أطرافه الأربعة عليَّ، راح صوتي يصرخ بلا مجيب بينما ينهش الذئب في لحمي راسما طريقه بأنياب ومخالب. حتى سقطت حصون براءتي وسالت دمائي تغرقني، صرخت صرخة أخيرة قبل أن أذهب من هذا العالم.
فتحت عيناي على غرفة بيضاء وصوت بكاء والدتي، ألم تتوقف عن البكاء بعد؟
كان أبي يهتف معتذرا بينما قاتلي يعوي صارخا:
-لقد خدعتني، منيت نفسي بشهر عسل ليس له مثيل فإذا بها لا تحتمل وتسقط مدرجة بدمائها والآن يتحدث الأطباء عن تهتك ونزيف داخلي وعليَّ أن أدفع مصاريف المشفى أيضا، أنت رجل كاذب.
شهر، هل يتحدث عن شهر، رفعت وجهي للسماء أرجو من ربي الرحمة، شعرت بالهدوء يجتاحني ويد حانية تضمني وصوت موسيقي يتمتم:
-لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
دلف الأب إلى المنزل وهو يزفر بغضب قائلا:
-اللعنة، تلك القروش القديمة قد انتهت في أقل من عام واحد ولم يعد شيء يكفيكم.
تلفت حوله مفكرا قبل أن يسأل الأم بصرامة:
-أين تكون ابنتك الآن؟
شعرت بقبضة باردة تعتصر قلبها ورفعت عينان دامعتان لصورة صغيرة لفاتنة عسلية العينين تبتسم ابتسامة تنير وجها وقد أحاط شريط أسمر بإطارها الذهبي المتشقق.
تساقطت دموعها في صمت فتجاهلها متجها إلى الداخل وسمعت صوته يقول بنعومة زلقة:
-هيا معي يا صغيرتي، اليوم سنشتري كل ما تبغين.

قد يعجبك ايضا
تعليقات